شاركت يوم الثلاثاء 3 كانون الثاني (يناير) 2006، في حلقة من برنامج الاتجاه المعاكس لقناة الجزيرة القطرية، خصصت لموضوع الضغوط الأمريكية علي سورية بحجة الديمقراطية، وبالنظر الي طبيعة البرنامج واختصار وقته الي ما يقارب الخمسين دقيقة، أضحي من المستحيل علي المشارك تقريبا بيان رأيه علي الوجه الأكمل أو حتي شبه الأكمل ناهيك اذا كان المشارك يدافع عن وجهة نظر لا تروق لمقدم البرنامج العزيز الدكتور فيصل القاسم، وتمنحه الحق من التحول من مدير للحوار الي خصم فيه.

وتقديرا مني لأهمية الأفكار التي سجلتها مسبقا لافادة المشاهد بها، ولم تسنح لي الفرصة لطرحها، ارتأيت تقديمها للقراء الأعزاء، تعميقا للنقاش في موضوع راهن ما يزال يثير الكثير من الحبر والجدل والاهتمام، وتطلعا للاستفادة من ملاحظاتهم وتعليقاتهم، وفي ما يلي موجز لهذه الأفكار في النقاط التالية: ان اتهام الولايات المتحدة الأمريكية بالازدواجية، لا يجب أن يحجب عنا ممارستنا كعرب ومسلمين لصور صارخة من هذه الازدواجية، وخصوصا فيما يتعلق بالعلاقة مع واشنطن، فنحن ان تدخلت الولايات المتحدة في شؤوننا قمنا بالاحتجاج الصارخ عليها، وان لم تتدخل قمنا أيضا بالاحتجاج عليها لأنها لا تقوم بواجباتها كقوة عظمي أولي في العالم، ومتهمة باستمرار بالسكوت عن أنظمة ديكتاتورية محسوبة عليها، أو لها معها علاقات وثيقة. هل يجب أن تتدخل الولايات المتحدة في الشؤون العربية أو لا يجب أن تتدخل؟ ذلك سؤال يجب أن تجري الاجابة عليه وفق معيار واحد، حتي لا ننهي عن فعل ونأتي مثله.

لقد قيل أن النظام السوري مضغوط ومغضوب عليه حتي يوافق الهوي الأمريكي في قضايا جوهرية كعملية السلام مع اسرائيل والمسألة اللبنانية ومشروع الاندماج في الاقتصاد العالمي، والبين أن النظام السوري كما أبرزت تحركات قادته طيلة الأشهر الماضية، والوساطات المصرية والسعودية والقطرية التي ما انفك يبتعثها، يرغب في موافقة الهوي الأمريكي، غير أن الولايات المتحدة فيما يبدو هي التي لا ترغب في هذه المسايرة، وتريد أن تعالج الموضوع بأكبر قدر من الوضوح والمبدئية.

قبل أسابيع من الحلقة المذكورة التي شاركت فيها، انصب هدف برنامج الاتجاه المعاكس علي اثبات أن ايران الاسلامية ما هي الا عميلة مخلصة للولايات المتحدة، وأنها تتقاسم الأدوار معها في العراق للسيطرة علي هذا البلد العربي، وتمزيق أوصاله والتلاعب بهويته القومية العربية (والأكراد بحسب هذه النظرية ليسوا الا عربا متنكرين في أزياء كردية)، فيما بدت ايران في الحلقة التي شاركت فيها محط غضب أمريكي ورائدة في التصدي للمشروع الأمريكي الصهيوني المعد للمنطقة، ولست أدري كيف يمكن التوفيق بين الرؤيتين، وأيهما أولي بالمشاهد أن يأخذ بها، ايران العميلة المتآمرة مع أمريكا علي العراق، أم ايران الموجودة في خانة واحدة مع سورية في مواجهة الغضبة الأمريكية الجائرة؟

خطاب التصدي للولايات المتحدة ومقاومتها، قد يكتسب بعض المصداقية اذا ما انطلق من دول كعراق صدام أو ليبيا القذافي أو سورية الأسد، باعتبار هذه الدول مصنفة نظريا كأعداء لواشنطن، أما أن ينطلق هذا الخطاب من قطر، فان الأمر يظهر نشازا الي حد كبير، وعلي كل من تحدثه نفسه باتخاذ موقف ثوري في مواجهة الولايات المتحدة، أن لا ينسي أنه انما يمارس وظيفته في التعبير عن رأيه بكل حرية، لأنه موجود في قطر، المحمية الأمريكية، وأنه لو لم يكن في مجال محمي أمريكيا لما تمكن أبدا من ممارسة آدميته للأسف الشديد .

ومثل هذا الموقف الذي عليه كثير من المثقفين العرب، انما يذكر بتلك النكتة الشهيرة التي جمعت بين أمريكي وسوفييتي أيام الحرب الباردة، حيث فاخر الأمريكي بقدرته علي سب رئيس بلاده أمام البيت الأبيض، فما كان من الروسي الا أن أجابه بأن بمقدوره سب الرئيس الأمريكي أمام البيت الأبيض في الكرملين أيضا.

واني لأسأل الصديق فيصل القاسم ان كان قادرا علي اعداد وتقديم برنامج كبرنامجه في تلفزيون سورية الأسد أو عراق صدام أو ليبيا القذافي باعتبارها رموزا للمواجهة والتصدي، وما اذا لم يكن ممنونا لقطر المحمية الأمريكية لأنها قدمت له فرصة للتألق الصحافي؟

ولقد سألت الدكتور فيصل القاسم بعد الحلقة المذكورة، عن عدد البرامج التي ألغيت بفعل تدخل أنظمة عربية لدي النظام القطري أو ادارة القناة، مقارنة بالبرامج التي ألغيت بفعل تدخل واشنطن، فلم تكن اجابته منكرة لحقيقة أن عددا كبيرا من البرامج قد حذفت لأنها ستغضب قادة عربا، فيما لم يلغ برنامج واحد منذ تأسست الجزيرة لأن الادارة الأمريكية رأت فيه مسا بمصالحها، علي الرغم من كل ما قيل من قصص مضحكة عن تخطيط الرئيس بوش لقصف مؤسسة اعلامية واقعة أصلا في حماه.

ان سب الولايات المتحدة الأمريكية غير مكلف البتة، بينما سب الأنظمة العربية المستبدة مكلف جدا، وان للأمريكيين سقفا أخلاقيا وأعرافا وتقاليد في احترام الاعلام الحر، لا توجد بكل تأكيد عندنا، وخصوصا عند أنظمتنا العتيدة. وللأسف فان الجزيرة تقع بوعي أو بدونه- في شرك التعويض عن الشعبية بسب الولايات المتحدة، لعجزها عن مواصلة نهجها في اثارة فضائح وجرائم الأنظمة العربية المستبدة.

وكما يلوم الدكتور فيصل القاسم المثقفين العرب الذين يسبون سورية ومن قبلها العراق أو ليبيا وفقا للأجندة الأمريكية، فان عليه أيضا أن يلوم أؤلئك الذين يسبون الولايات المتحدة صباحا مساء في حين هم أعجز عن أن يوجهوا أتفه الملاحظات أو الانتقادات الي الأنظمة المستبدة التي يعيشون تحتها.

انني احترم كثيرا اولئك المثقفين الذين لديهم قدرة علي انتقاد الولايات المتحدة وفي نفس الوقت معارضة الدكتاتورية في بلادهم، لكنني لا يمكن أن أكن الاحترام نفسه لأبطال من ورق في مواجهة أمريكا و أقزام تبع وصغار في مواجهة حكامهم الطغاة والظلمة.

ولعله من المناسب جدا في هذا السياق، التذكير بممارسة خبيثة ما فتئت الأنظمة العربية تقوم بها، عندما تعمل علي تشجيع بعض مثقفيها أو غض الطرف عنهم للنيل من الولايات المتحدة، في حين تقوم بجمع ما نشر من سباب وشتائم في ملفات يجري اطلاع الادارة الأمريكية دوريا عليها، من باب تحذيرها من خطر برامج المعارضات العربية علي المصالح الأمريكية، واقناعها بأنها وحدها أي الأنظمة القائمة- القادرة علي ضمان هذه المصالح، وأخذ موافقتها علي الاستفراد بهذه المعارضات وتلقينها دروسا لن تنساها.

انني أدرك جيدا أن الولايات المتحدة لا تحظي بشعبية كبيرة في العالم العربي والاسلامي، وأن الدفاع عن علاقات وثيقة وجيدة معها تبدو مغامرة غير مضمونة من الناحية السياسية، غير أنني قررت قبول التحدي ومواجهة الرهان عندما دعيت للمشاركة في الاتجاه المعاكس، وذلك من منطلق تحمل المسؤولية، فالمثقف والسياسي الصادق مع نفسه ومع شعبه، يجب أن لا يعمل بمفهوم الجمهور عايز كده ، وعندما تقتضي الحالة معارضة التفكير العام في قضية ما، فيجب أن لا يتردد لهثا وراء أرباح شعبوية راهنة، وتضييعا لمصالح عامة استراتيجية ودائمة.

لقد كانت قناعتي ولا تزال مستمرة، بأن النظرية التي تقول بأن أمريكا لا يمكن الا أن تضمر لنا شرا ، نظرية باطلة تكذبها وقائع وأحداث كثيرة، وأن عدم تطابق وجهات نظرنا مع وجهات النظر الأمريكية حيال القضية الفلسطينية مثلا، لا يجب أن يفضي الي الاعتقاد بأن وجهات النظر أو المصالح بين العالم العربي والولايات المتحدة لا يمكن أن تلتقي أبدا. والرأي الثابت عندي أن تحقيق الديمقراطية في العالم العربي، مصلحة عربية أمريكية مشتركة، علي الرغم من كل ما يمكن أن يضمره البعض علي هذه الضفة أو تلك من كراهية وعداء لهذا المشروع.

ان الناظر في الشأن التركي أو الماليزي أو الاندونيسي أو البوسني، سيتأكد بلا ريب أن الولايات المتحدة ليست لديها مشكلة في نهضة وتقدم وديمقراطية المسلمين، تماما كما أن المتأمل في الحال العربي، سيلاحظ أن الدول العربية التي تربطها علاقات وثيقة بالولايات المتحدة، في وضع تنموي وسياسي وحقوقي أفضل من تلك التي دارت من قبل في الفلك السوفييتي، وظلت ترفع خديعة وخبثا وكذبا شعارات قومية وجهادية وثورية، في حين كانت عمليا جمهوريات رعب وخوف وفساد.

وعلي نحو ما سبق أن كررت مرارا في شأن النظام السوري، وما يزال هذا النظام بسلوكه الأرعن يثبت صدقيته، فانه ليس أسهل من اسقاط ذريعة الديمقراطية التي يقال أن الولايات المتحدة تتحجج بها، وذلك بأن يسرع الرئيس بشار الي اصلاحات سياسية ودستورية، ترفع الضيم عن شعب مقهور محكوم بالحديد والنار والاستخبارات اللعينة منذ ما يقارب الأربعة عقود، وتحقق وحدة وطنية حقيقية بين مختلف أبناء الشعب السوري، قادرة علي الحاق الهزيمة بكل قوة خارجية تخطط للشر والعدوان علي البلد، غير أن يقيني وليته يكون كاذبا يحيلني الي حقيقة مغايرة، مفادها أن الضغوط الخارجية ستتخذ مجددا، كما اتخذت اسرائيل، تعلة لتكميم كل الأفواه المنادية بالديمقراطية، وأن الرهان الرسمي السوري سيظل الي آخر رمق مركزا علي تسوية ما مع الولايات المتحدة.

وان القول لجار، بأن التسوية مع الولايات المتحدة لن تنفع حتي اذا ما نجح النظام السوري في الحصول عليها، وليس من سبب لذلك الا لأن الشعب السوري قد أراد الحياة وأنه لابد من أن يستجيب القدر.