يجري الشعب الفلسطيني، اليوم، تقويماً لعقد من السياسات.

يقول رأيه في ما هو مطروح عليه وذلك في انتخابات تعددية فعلاً وخاضعة للرقابة.

إنها المرة الأولى التي لا يبقى فيها طرف رئيسي (باستثناء <<الجهاد الإسلامي>>) خارج المباراة.

سينتظر العالم ليعرف النتيجة، وليراقب ما إذا كانت ستكرر نتائج الانتخابات البلدية ذات الخصوصية والتي يصعب، مبدئياً، اعتبارها معياراً حاسماً. وحتى في دورة اليوم يفترض بالأنظار أن تتجه إلى النّسب التي تنالها القوائم الوطنية (نصف المقاعد) لأن هذا هو المجال الرئيسي لفهم الحكم الذي سيصدره المقترعون.

سيحدد الناخب الفلسطيني موقفه انطلاقاً من أمرين: الخيارات الوطنية والسياسية الإجمالية، وأداء كل من السلطة والمعارضة. وسيكون مهماً التعرف إلى حجم الكتلتين الرئيسيتين، <<فتح>> و<<حماس>> وما سيفيض عنهما بحثاً عن خيارات أخرى وتأييداً لقوى لم تنجح في توحيد صفوفها.

ثمة التباسات تحيط بوضوح المواقف من الخيارات الإجمالية.

فلقد رست قائمة <<فتح>>، بعد خلافات، على خليط قليل التجانس.

كشكول <<فتح>> يضم الجميع مثل العادة إنما في ظروف جديدة هذه المرة ضعيفة الصلة بما شكل في الماضي قوة للحركة.

قيادة مروان البرغوثي للقائمة هي أفضل ما كان يمكنه أن يحصل لها. وهي تدل على أنها تنوي خوض المبارزة بوجه يجمع التصلب والبراغماتية آملة في القضم من جمهور كاد يغادرها بسبب مزيج من المسلكيات الخاطئة والسلوك التفاوضي المتهاون باسم الواقعية المفرطة. في المقابل ترسل <<حماس>> إشارات متعارضة بعض الشيء حول نواياها وسياساتها المستقبلية.

قد يكون في الأمر تكتيك انتخابي لتعطيل الخطة ضدها والتي تريد تحويلها إلى <<فزاعة>> تعزل الشعب الفلسطيني وتصادر حرياته المدنية، كما قد يكون ثمرة تطور جدي يلاحظه أي مراقب لتاريخ التنظيم. ولا يجوز، طبعاً، استبعاد وجود تباينات في المواقع القيادية.

الالتباس السياسي الحاد أقل منه في ما يخص الأداء.

إن الوضع في الأرض الفلسطينية المحتلة فضائحي بالمعايير كلها.

وإذا كان ذلك يطال السلطة ومؤسساتها فإن رذاذه يطال <<فتح>> أيضاً. ومع ذلك تبقى ل<<الحركة>> هالة (وعصبية) تفتقدها السلطة ويمكن لها أن تحد من فعالية العقوبة الشعبية.

وإذا كانت حصة <<فتح>> في المجلس التشريعي ستتراجع، وهي ستتراجع حتماً بسبب مشاركة <<حماس>>، فإنه لن يكون سهلاً جداً فرز دور السياسة ودور الأمن (فقدان الأمن بالأحرى) في هذا التراجع.

لقد انتهى تماماً عمر <<الفوضى>> بصفتها وسيلة نضالية وبات مفعولها عكسياً تماماً. لقد افتعلها الرئيس الراحل ياسر عرفات وضبطها لأنها كانت تندرج، في رأيه، في سياق سياسي يرفض ضبط الأوضاع قبل الحصول على الاستقلال، أي يرفض بناء الدولة قبل أوانها، ويرفض الحصار الذي ضُرب عليه في سنواته الأخيرة.

لم تعد الفوضى، اليوم، سوى المدخل إلى التدمير الذاتي.

تلعب العناصر المشار إليها آنفاً لصالح <<حماس>>.

سنرى إذا كان ذلك سيعني تفوقها على <<فتح>> أم أنه سيعني فرض ثنائية جدية عليها مكرسة شعبياً وذلك للمرة الأولى في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.

إلا أننا، في الحالين، سنكون أمام اندراج فلسطيني في مسار عربي وإسلامي أعم يتمثل بصعود الجناح الإسلامي ضمن العمل الوطني على حساب الجناح <<العلماني>>. علماً أن هذا الجناح الثاني، في الحالة الفلسطينية، يملك ما يدافع به عن نفسه ويتجنب، حتى الآن، السقوط في الوهم الليبرالي الطافي على السطح والمعدوم الجذور.

يجب ألا ننسى أن الانتخابات الجارية اليوم هي لإنتاج سلطة تدير حكماً ذاتياً محدوداً.

يمكن القول إنها انتخابات بلدية موسعة وبصلاحيات معززة. فلا زال الشعب الفلسطيني بعيداً جداً عن انتخابات سيادية يختار فيها فريق حكم يمارس الصلاحيات الكاملة.

الانتخابات هي، إذاً، صراع على سلطة الحكم الذاتي ضمن فلسطينيي الأرض المحتلة (مع صعوبات خاصة لمشاركة المقدسيين فيها بجدية).
إنها صراع على بعض السلطة فوق بعض الأرض لبعض الشعب. والمفارقة الاستفزازية هي أن مصير الأرض الوطنية الفلسطينية هو موضوع لتنازع انتخابي في مكان آخر.

إنه موضوع الانتخابات الإسرائيلية حيث تحدد الأحزاب المتنافسة حجم الأرض الفلسطينية الذي ترغب في... ضمه!

يجب أن نضيف إلى ذلك أن الانتخابات الفلسطينية هي صراع على سلطة محدودة هي من نتائج <<اتفاق أوسلو>> وأنها تجري في وقت يتميز بوجود إجماع على أن <<اتفاق أوسلو>> انتهى ومات. ولعل ملاحظة حالة الوفاة تبرر، لمن يشاء، الاشتراك حتى لو كان من المعترضين على المرحلة التي افتتحت في 1993.

ويمكن من باب التبرير القول إن سلطة الحكم الذاتي لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد، بأي مفاوضات سياسية مع إسرائيل تتجاوز تلك الاضطرارية بين قوات احتلال وشعب تحت الاحتلال يريد تدبر أمور حياته اليومية.

إن المفاوضات، كما هو معلوم، هي من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية. ولذا فإن استفتاء اليوم لن يكون مقيداً بالقدر الكافي، ولا يكون ذات دلالة جدية بالنسبة إلى المصير الوطني، إلا إذا أدى إلى فتح ملف منظمة التحرير على مصراعيه من أجل إعادة النظر بمؤسساتها، وهيكليتها، وسياستها، ووظيفتها.

هذا هو الموضوع الجوهري الذي يفترض بالانتخابات أن تكون خطوة نحو وضعه على جدول الأعمال