اهلاً وسهلاً اضيفها الى ألوف الـ"اهلاً وسهلاً" اللبنانية التي استقبلت وصولك الى لبنان لبدء مهمتك الجديدة حتى لو لم تصلك مباشرة. فاللبنانيون عموماً باتوا يعتبرون، لاسباب قديمة تتعلق بعقدتهم من خطر تهميش بلدهم على المستوى الدولي الذي عانوا منه طويلاً حتى لو انهم الآن منذ اكثر من سنة في ذروة هذا الاهتمام الدولي الاستثنائي بهم...

الاهتمام الذي يخافون تراجعه في "ليلة بدون ضوء قمر" كما يقال عندنا...

هؤلاء اللبنانيون – اي نحن – باتوا يعتبرون ان وجودك هنا كرأس للجنة التحقيق الدولي ضمانة استمرار الاهتمام الدولي بلبنان اكثر من اهتمامهم بنتائج التحقيق نفسه، لانهم يخشون ايضاً ان لا تتمكن الطبقة السياسية التي تحكمهم (والتي يقترعون لها!!) بسبب ما يعرفونه عن زبائنيتها وفئويتها وفساد العديد من اجنحتها ان لا تتمكن من الاستفادة من الفرصة المعطاة لها لاعادة بناء الدولة قبل زوال الاهتمام الدولي، الاميركي الاوروبي وتحديداً الأميركي الفرنسي من جهة، ولانهم من جهة اخرى، وهذا مهم جداً، لانهم اصدروا "حكمهم" سلفاً عن من قتل رفيق الحريري اياً تكن النتيجة التي ستصل انت اليها!

السيد برامرتز

انت تصل الى بيروت في مرحلة "جديدة" داخل هذا التبني الدولي اذا جاز لي التعبير. لكن مع الاسف، وارجو ان لا اكون مخطئاً، لم يفهم الكثير من السياسيين اللبنانيين هذا الفارق ولا يريدون ان يفهموا، وان كان بعضهم وهم من المتزنين في السلطة السياسية فهموه متأخرين قليلاً. لقد قال "النظام العالمي" للحكومة اللبنانية عندما رفض الموافقة على طلبها بتشكيل محكمة ذات طابع دولي، ان قضية التحقيق باغتيال رفيق الحريري هي قضية باتت تخص سياسياً "النظام العالمي" وليس لبنان واللبنانيين! انها قضية باتت تتعلق بكل رؤية هذا النظام العالمي للوضع في الشرق الاوسط ولمصير النظام السوري نفسه... الذي لم يعد شأناً لبنانياً. كان هذا الرفض، ليس رفضاً لفكرة المحكمة الدولية الآتية حتماً ولكن رفضاً لـ"الاجندة" اللبنانية التي تخطت حدودها في هذا الموضوع!

انت تتولى مهماتك مع هذه المرحلة الجديدة، المرحلة "اللالبنانية" في التحقيق باغتيال الرئيس رفيق الحريري كقضية دولية في الصراع على المنطقة، لبنان فيها مركز "لوجستي" لا "سياسي" للعمليات، من هذه الزاوية الدولية وهي الاهم والاوسع.

السيد برامرتز:

عليّ ان اذكّرك بأمر "بديهي" ولكن في غاية الاهمية. انت ترأس فريقاً للتحقيق بجريمة شبه معلنة.

ولهذا فإن الذي ينتظره منك اللبنانيون (اغلبيتهم) ليس ان تخبرهم من هو القاتل! وهذا ما اخبرهم اياه سياسياً ديتليف ميليس، ولكن ان تثبت لهم ولغيرهم كيف تمت عملية القتل تحضيراً وتنفيذاً، اشخاصاً وآلية، وهذا ما لم يستطع ان يفعله السيد ميليس جنائياً.

هذه النقطة تسمح لنا بالايغال اكثر في الموضوع. وسأضع هنا جانباً الكلام السخيف عن "تسييس" التحقيق والكلام الدفاعي السخيف عن "عدم تسييس" التحقيق. الجريمة سياسية والتحقيق مثلها مسيّس فعلاً، بمعنى انه تحول الى حلقة اساسية في ادارة عملية التغيير الشاملة في الوضع اللبناني، البادئة مع خروج الجيش السوري من لبنان.

وثمة بعض الخطوات التحقيقية لعب دوراً مهماً في التغيير الكبير الآخر ولكن الأقل اهمية من الاول وهو اعتقال القادة السابقين للاجهزة الامنية اللبنانية في لحظة سياسية مواتية للادارة الدولية للتغيير اللبناني.

سأضع ذلك جانباً لادعوك اولاً الى تجنب الاخطاء الجادة التي وقع فيها السيد ديتليف ميليس، على الرغم - بالتأكيد - من الجهود الهائلة التي بذلها لفهم آليات الجريمة كما لفهم السياق التاريخي السياسي للحياة السياسية اللبنانية ونظامها الطائفي وبنية اجهزة الدولية فيها، عبر التقريرين اللذين اصدرهما، وبصورة خاصة التقرير الاول.

وهذا طبيعي في اي تحقيق جنائي معاصر، فكيف في جريمة قرر "النظام العالمي" ان يجعلها ملفاً دولياً رئيسياً، بل مفتاح خطاب التغيير في العالم العربي بعد سقوط نظام صدام حسين في بغداد؟

الخطأ الرئيسي الذي "لا يغفر" للقاضي ديتليف ميليس هو "سماحُه" بتعريض تحقيق دولي بهذا المستوى الفني وبتلك الاهمية السياسية الى "ابتذال" جدي... ظهر تباعاً مع حالات الشهود الثلاثة محمد زهير الصديق، هسام هسام، وابرهيم ميشال جرجورة.

كيف سمح السيد ميليس بهبوط المستوى في التخاطب حول الشهود وتوريط التحقيق بهذا الشكل الى حد استدعى الامر تدخل شاهد من مستوى رفيع جداً مثل السيد عبد الحليم خدام لاعادة "تعويم" خلاصات التحقيق؟

اظن ان السيد ميليس تغاضى اكثر من اللازم، وبمعنى ما صار "ضحية" هذا الامر، عن عنعنات السياسيين اللبنانيين في اللعب باسم التحقيق، وبأشكال غير رصينة. هذا ينبغي ان لا يتكرر معك ولديك الوسائل الكاملة لمنعه، اولها في رأيي – بل لعل اهمها – ان لا تضيّق النطاق الاجتماعي لاتصالاتك فحسب بل ان تلغيه تماما الا داخل مبنى "المونتي فردي" وخلال العمل ما عدا الزيارات "الدولتية" الضرورية للمسؤولين وحصرا رئيس الوزراء ووزير العدل هذا سيمنع اصلا وجود "اوصياء" محليين على مجرى التحقيق، لا شك عندي ان ديتليف ميليس لم يكن يريدها، ولكنه مع الاسف تراخى امام بعض مظاهرها.

السيد برامرتز

تستطيع ان "تلجأ" بينك وبين نفسك الى الخط "الدفاعي" الذي اعتمده قاض اميركي محافظ كبير لا يزال عضوا في المحكمة العليا، قرأت رأيه خلال زيارة للولايات المتحدة الاميركية في اطار النقاش الذي دار في الصيف الماضي حول تعيين قاض جديد في المحكمة.

رأي هذا القاضي الكبير - وجميعهم شخصيات كبيرة في المحكمة العليا – انه ليس مهمة القاضي ان "يغيّر" القانون... مهمته ان يحافظ عليه في وجه الرأي "الليبرالي" الذي يعتبر ان طريقة الاجتهاد لا تقرر فقط تنفيذ القانون، بل "تغيره" بطريقة من الطرق. النقاش عميق جدا كما تعرف انت كقاض مجرّب، لأن "روح النص" – من وجهة نظر البعض الآخر – التي تستوحي العدالة، هي الالتزام الاخلاقي الرئيسي لاي قاض.

نحن هنا ربما نتحدث عن "قضاة حكم" لا قضاة تحقيق، ولكن انت تعرف اكثر مني طبعا اي نقاش مهم متواصل واحيانا متوتر يدور في فرنسا حول دور قاضي التحقيق حين يتحول مجرد الاستدعاء لأي شخص الى نوع عملي من "الحكم" الذي قد يدمر وضعه، او كما في الملف الدقيق جدا الذي واجهه القضاء البلجيكي في الدعوى المرفوعة على ارييل شارون من بعض ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا.

انت تعرف اي حدث دولي هام كان سيحصل لو نجح محامو الادعاء في استدعاء رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك او في اطالة امد الدعوى التي استوجبت في البداية حضور موكلي شارون.

نحن لا نطالبك، بأن تتحمل مسؤولية التغيير في لبنان. ولكن لا شك سيدخل سلوك لجنة التحقيق في تاريخنا، خصوصا القضائي. ففي لبنان لدينا تقاليد – منذ عهد الانتداب الفرنسي – لقضاة اشخاص مهمين كفقهاء في القانون المدني والقانون الجزائي والقانون الاداري.

ولدينا الآن جيل من المحامين يزداد ممارسة ومعرفة بالقانون الدولي الخاص والقانون الدولي العام. لكن مع الاسف ليس للجهاز القضائي اللبناني تاريخ جدي من الشجاعة السياسية، مقابل تاريخه العلمي الرصين...

في جميع العهود.

هذا يعني عدة امور معا:

- مستوى عمل لجنة التحقيق، ولو انه سيكون موضع اهتمام في تاريخ القانون الدولي في العالم، فإنه في لبنان الآن ذو قوة "تغييرية" عالية تتأتى من قوة "المثال" الذي تجسده لجنة التحقيق في بلد يعاني فسادا واسعا. المفارقة هنا ان طاقته التغييرية تصبح اقوى كلما ازداد سلوك لجنة التحقيق، وانت على رأسها، محافظة، حين تعني المحافظة هنا الحذر الشديد من اي سماح بتلاعب لبناني فئوي بالموضوع، من قبل سياسيين ليس لديهم عادة النقد الذاتي لسلوكياتهم.

- انصحك - حتى على المستوى الاجتماعي العادي – ان تختلط مع حقوقيين، قضاة ومحامين اكثر من اختلاطك بالسياسيين الا طبعا في الاطار المهني ورغم وجود طبعا عدد من السياسيين ذوي السمعة المحترمة لا اريد ان اذكر اسماءهم هنا لكي ابقى بعيدا عن اي مجاملة. ولا اشك لحظة ان قراءات لتاريخ المنطقة وتاريخ لبنان ومحيطه ستكون ذات فائدة عالية للتقرير النهائي اذا سمح وقتك بذلك. فالخلفيات السياسية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التي ترد في اي تقرير جنائي تجعله اكثر موضوعية اذا كان الجهد التقني فيه مستوفىً، ولكنْ لهذه الخلفيات محظور اذا لم يكن الاستيعاب عميقا، هو احتمال ضعف الاستنتاجات...

اذكّرك مرة اخرى انك تحقق في جريمة شبه معلنة عندما ارتكبت. وما يريده اللبنانيون ليس معرفة القاتل بل اثبات كيفية القتل، اشخاصا وآليات.

واتمنى لك كل التوفيق فعلا... لانني، مثل كثيرين من اللبنانيين، اؤمن باننا بحاجة مصيرية الى رعاية دولية متواصلة للبنان، ومعها الى استمرار عمل لجنة التحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري، في ظل ليس فقط العجز الذي لا دواء له في الوقت الحاضر للقضاء اللبناني والذي لم ولن يكون ولم ولن يصبح مستقلا، بل ايضا بسبب الافق المسدود حتى الآن للنظام الطائفي اللبناني.

لقد اصبح نموذج "لجنة التحقيق" نموذجا "عضويا" لحركات الاصلاح السياسي في العالم العربي...

من حيث التأكيد على المحاسبة والشفافية. واذا كنت اعرف، كما غيري، انك سياسيا ممثل الآن مهم لـ"النظام الدولي" فإن هذا الموقع يتيح لك ان تساهم في بناء مثال على الوجه الايجابي الذي يمكن لهذا "النظام" ان يقوم به في تحولات قيمه وموازينه في القرن الحادي والعشرين، على حساب ارث من السمعة السيئة لـ"المصالح الدولية" في منطقتنا في نصف القرن المنصرم. (هناك مؤتمر واسع تنظمه مؤسسة مصرية سيعقد في النصف الثاني من شباط في الرباط وبين الجلسات المقررة مناقشة ورقة حول "نموذج ميليس" في تقييم حركات الاصلاح السياسي العربية)!

السيد برامرتز

هناك حدث ذو دلالة كبيرة لا يعيره عادة المؤرخون السياسيون للعالم العربي المعاصر اهمية تذكر باستثناء بعضهم القليل جدا. ففي احدى السنوات الاولى للنظام الجديد في مصر الذي قاده من عُرفوا باسم "الضباط الاحرار" اعتبارا من عام 1952، تعرض اكبر قاض في مصر، بل من سيصبح باعتراف القضاة اللبنانيين والسوريين والعراقيين وليس المصريين فقط اكبر قاض عربي في القرن العشرين، هو الدكتور عبد الرزاق السنهوري ...

تعرض هذا المرجع القضائي الكبير الى اعتداء باليد من قبل مجموعة من الامن المصري اقتحمت مكتبه.

القاضي المصري المحترم طارق البشري الذي لا يزال على قيد الحياة كتب معتبرا هذا الاعتداء بالضرب على الدكتور السنهوري بداية تراجع "استقلالية" القضاء المصري حيال السلطة السياسية مع ان البشري ليس معاديا للنظام الناصري. بل هو معجب ببعض التأثيرات الثورية للرئيس عبد الناصر.

برأيي، يمكن اعتبار هذا الحادث بداية سقوط دولة القانون في العالم العربي. هذا السقوط الذي سيصبح "قاعدة" للانظمة الاستبدادية العربية او لتخلفها.

من اية حادثة في القرن الواحد والعشرين سنؤرخ لـ"عودة" دولة القانون في لبنان والعالم العربي؟