لم يستطع "التيار الثالث" دوليا منذ مؤتمر باندونغ (1955) صياغة واقع خاص، رغم أنه شكل كتلة أزمات متلاحقة.

فدول عدم الانحياز ومن بعدها منظمة المؤتمر الإسلامي وضعت نفسها وسط حدة صراع المحورين الدوليين في مساحة سياسية تؤدي في النهاية للانحياز نحو محور دون آخر.

وبالطبع كان من الصعب على "الكتلة" غير المتجانسة الوصول لمشروع سياسي، في وقت تحاول فيه رسم ثقافتها من منطق حالات العداء المستمرة لما يعرف بـ"ثقافة الاستعمار الكولونيالي".
ورغم ان "مؤتمر باندونغ" جمع ثلاث كتل هامة (مصر، الهند، يوغوسلافيا)، لكن واقع اثنين من هذه الكتل يدفع باتجاه حدة الصراع الدولي والانحياز باتجاه الاتحاد السوفياتي السابق. فمصر كانت تحتاج بالفعل وهي تخوض صراع "قناة السويس" وتثبيت "ثورة 23 تموز" إلى نموذج قادر على خلق عمليات جذب، أو إنتاج آليات وصياغة مفاهيم يمكن التعامل عمها. وبهذه الصورة فإن عشر سنوات كانت قادرة على جعل مصر "حليف" واضح المعالم لموسكو رغم أن الشيوعيين كانوا في معتقلاتها.

وإذا حاولنا تجاوز الأغراض الخاصة لكل دولة في تكوين ظاهرة "عدم الانحياز"، فإنها كانت بالفعل تجربة في رسم "التيار الثالث" على سياق زمن الحرب الباردة. لكن معظم الدول التي دخلت في هذه المنظمة لم تستطع حسم مسألة مفهومها لهذه الأمر داخليا على الأقل.

بينما ظهر في العالم وخارج نطاق دول عدم الانحياز تيار اجتماعي لما يمكن أن نسميه صورا متفرقة للتيار الثالث، ابتداء من حركات السلام وانتهاء بالتيارات الثقافية.

وبالفعل فإن انهيار الاتحاد السوفياتي أنهى بشكل فعلي المواقع الخاصة لدول عدم الانحياز، التي وجدت نفسها وفق شرعية جديد، ليس فيها سوى الهيكل الإداري الذي ينظم بشكل أو بآخر علاقاتها فيما بينها. وربما كان السبب الأساسي ليس انتهاء الحرب الباردة، بل عدم قدرة هذا التيار على استكمال رؤيته ومفاهيمه وسط الصراع، فهو صاغها على سياق الصراع بدلا من أن يشكل مخرجا لما حدث أثناء توازن الرعب.

ما الذي يصلنا اليوم من تجربة "دول عدم الانحياز"؟!!! إنها المسألة التي تدفعنا أكثر إلى محاولة رسم التيار الثالث كنموذج يحتاجها المجتمع كحاجته إلى ما اصطلح على تسميته "الطبقة الوسطى" التي تشكل عمليا الرافد الحقيقي للثقافة والإنتاج.

لكن "التيار الثالث" مطالب بالفعل بالتعامل مع منافذه الخاصة وليس إيجاد حل للتضاد بين التيارين الرئيسيين.

وبمعنى آخر فإن عليه التحرر من تاريخ الصراع وليس إهماله. وبهذه الصورة يمكن التفكير بإيجاد برنامجه أو جمهوره لكي يصبح تيارا.

فالمسألة ليست بالنسبة إليه "حكومة" أو "معارضة" ...

وشرق وغرب ...

أو حتى فوضى بناءة في مواجهة الإرهاب ...

إنها بالفعل قضية التعامل مع مفاهيم ورؤية مستقلة.