سأفترض أن واحدا من دهاقنة النظام الطائفي اللبناني قيل له في مجلس خاص جدا أن الانتخابات في لبنان هي فرصة لتغيير حقيقي في الطبقة السياسية او في الفئة الحاكمة على الاقل... إما انه سيبتسم مستهزئا بالرأي وصاحبه او انه سيصمت معتبرا هذا الرأي لا يستحق أي رد فعل…

والامر كذلك فعلا: فالانتخابات التشريعية في لبنان لم تبلغ يوما في تاريخها كله مستوى إحداث تغيير شامل في الطبقة السياسية عبر محض الانتخابات نفسها أي وفقاً لما تقرره صناديق الاقتراع وحدها في انتخابات لا خلاف على نزاهتها (حدثت طبعاً محاولات تغيير جزئية أو واسعة لكن عبر التزوير والتسلط وبصورة خاصة أعوام 1947 و1957 و1992.

…لهذا يبدو أن الانتخابات الفلسطينية الاخيرة تنتمي الى "منظومة " انتخابات لم نصل اليها فعلا بعد وهي الانتخابات التي تغير في المؤسسة الحاكمة على غرار ما حصل في تركيا عام 2002 وعلى غرار ما يحصل دائما في اوروبا مثل التغيير الايطالي بعد ثورة القضاة في التسعينات والتغيير الالماني مع دخول الخضر وغير ذلك من السابقات او ماحدث في الانتخابات الرئاسية في البرازيل وما يحدث الآن في دول اخرى في اميركا اللاتينية…

السؤال- الحسرة الذي يتجدد بقوة مع نتائج الانتخابات الفلسطينية الاخيرة هو: لماذا يلعب الاستياء من فساد الطبقة السياسية وبيروقراطيتها هذا الدور التغييري الشامل (ولو لم يكن طبعا العامل الوحيد) في انتخابات بلدان اخرى ومنها الآن بلدان نشبهها وتشبهنا مثل تركيا وفلسطين! ولا يلعب الاستياء من الفساد السياسي أي دور جدي تغييري في الانتخابات في بلد كلبنان مع ان لدينا تقاليد فساد سياسي فاضحة ومزمنة؟ هل السبب هو نظامنا الطائفي الذي يحمي شعبيا طبقة فاسدة، وهذا امر اكيد في أي تحليل لحالتنا، ام هناك عجز نخبوي عن انتاج ممانعة جادة بسبب تورط بنيوي لشرائح واسعة من النخب اللبنانية في مصالح الطبقة السياسية، وهذا يعني تخلفا جادا في مستوى تطور الآليات التحديثية في نظامنا السياسي مقارنة بتركيا أو في مستوى الرعاية والرقابة العملية من قبل القوى الدولية وتحديدا "النظام العالمي" مقارنة بفلسطين آخذاً بالاعتبار ما آلت اليه "الدولة الفلسطينية" كمشروع دولي رئيسي في عالم اليوم بما يضيّق مجال التلاعب امام نخبتها بشكل لا ديموقراطي وتحديدا في الانتخابات؟

…ايا تكن سلة الاجوبة... فإن الانتخابات الفلسطينية يوم الاربعاء الماضي نقلت–منهجيا– الشعب الفلسطيني الى "منطقة مؤسساتية" أرقى سياسيا منا... أي من "المنطقة المؤسساتية" التي نقف عليها نحن اللبنانيين، حتى لو كانت بنيتنا الاجتماعية الثقافية عريقة التمأسس الحداثي.

صحيح انه كان لـ"المدرسة السياسية" الفلسطينية بعد 1967 ميزة اخرى على اللبنانيين هي تقاليد الحفاظ على الوحدة الوطنية، لكنها كانت ميزة سياسية سابقة على قيام السلطة – نواة الدولة، وقبل نشوء حماس. وحدة وطنية بين فصائل مسلحة، لكن الآن اختلف الامر، انها ميزة "دولتية" لا ثورية.

باختصار دخلت "الدولة" الفلسطينية قيد النشوء منذ إعلان النتائج امس الاول مستوى أرقى سياسيا منا: إنه القدرة المؤسساتية على التغيير عبر الانتخابات.

بالمناسبة: الرئيس محمود عباس- قد نكتشف سريعا- انه اصبح اقوى بل أفعل سياسيا بعد هزيمة "حزبه" حركة "فتح" في ظل انتصار حركة "حماس". حزبه الذي كان ضعيفاً داخله في الوطن والمنفى.

انها ايضا – قد نختبر – لحظة بدء مسؤوليته التاريخية عن حماية "الدولة"... لا السلطة.