لولا اللحية البيضاء لمحمود الزهّار، لأقنعتنا الصورة التلفزيونيّة أن الأطفال وحدهم صنعوا الحدث الفلسطينيّ الأخير، مثلما صنعوا أحداثاً كثيرة في التاريخ العربي المعاصر.

بطبيعة الحال، ليس الأطفال مَن صوّتوا، إلا أن الديموغرافيا ثقيلة الوطأة على فلسطين وسياستها. وهي، مصحوبة بفساد «فتح» وبانسداد آفاق التسوية، أطاحت المرحلة الوطنية معلنةً عوداً على بدء الإخوان المسلمين. فما قبل «فتح» سوف يغدو ما بعدها، وهكذا دواليك يُكتب تاريخنا ويُستعاد.

لكن المرحلة الوطنية و»القومية» التي ستتردد أصداء انهيارها في المنطقة بأسرها، بقي منها تحليلها الظافر. ذاك أن ما لم يصلح بـ «فتح» سوف يصلح بـ «حماس». والتحليل الوطني - «القومي» هذا هو قفا التحليل الأميركي - الإسرائيلي الذي راهن على القمع والتصلّب مرفقاً بالديموقراطية، مثلما راهن على الديموقراطية مرفقةً بتهديد الفلسطينيّين إن اقترعوا لـ «حماس»!

وهو جميعاً من قبيل الأماني المتهافتة وفد جُعلت وقائع. فكم كان أجدى لو أن قدراً من الجهد الذي بُذل لنشر هذه الديموقراطية الخرقاء، بُذل في الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات فعلية للمشروع الوطني الفلسطينيّ. وكم كان أنبل وأشجع لو أن الإرث الذي خلّفه ياسر عرفات تعرض لنقد جديّ، فلم يُضطرّ محمود عباس لإصلاح ما بات اصلاحه مستحيلاً.

والحال أن الوقائع الفعلية باشرت انقشاعها الساطع في الأيام التي سبقت الانتخابات الأخيرة، أو، بالأحرى، مع الانسحاب من غزّة. فقد ارتسمت ملامح مأزق فلسطينيّ مريع مفاده العجز عن مقاومة إسرائيل حين تتوسّع والعجز عن إقامة سلطة حين تنسحب. فإذا صحّ أن السلوك الإسرائيلي الصلف أعدم الكثير من عناصر القدرة على تطوير حياة سياسية فلسطينيّة، صحّ، كذلك، أن السياسة الفلسطينيّة غدت حشرجة في فنجان. وهذا يلقي بظلّه على انتصار «حماس» الأخير، معطوفاً على طبيعة «حماس» نفسها.

فليس ما حدث، قبل يومين، تزخيماً جديداً للقضية الفلسطينيّة بل هو، في أغلب الظن، إفقار لما تبقى من زخمها. ذاك أن القطاعات الحديثة، من نُوى للطبقة الوسطى ومتعلمين ونساء متحررات وأبناء أقليات دينية، سيتعاظم استلابها حيال موضوع أمسى في عهدة «حماس».

أما الأخيرة فيُحتمل أن تمعن في تغييب الموضوع الفلسطينيّ عبر دمجه في الموضوع الديني - الغيبي، فضلاً عن عدم امتلاكها أي تصوّر للسياسة والعلاقات الدوليّة، ناهيك عن انعدام خبرتها فيها.

وفي انتظار أن تتضح تجربة التساكُن مع الرئيس محمود عبّاس، وأن تتبيّن طبيعة الحكومة المقبلة، يمكن القول إن غباراً كثيفاً من الفوضى سوف يهبّ على المنطقة كلها. فاستقرار الأردن ستحيطه علامات الاستفهام، وهرطقة المزج بين السلطة والمقاومة في لبنان ستقع على ما يعزّزها. وهو ما لن يكون مكسباً صرفاً لأطراف راديكالية متجانسة لأننا نعرف أن ما تكسبه سورية الراديكالية بفوز «حماس» تخسره سورية البعثيّة بفوز «الإخوان»، مثلما نعرف أن الرياح المذهبيّة التي تهبّ من العراق تجعل التعويل على المنافع الإيرانية نسبياً، بل متضارباً.

وإلى هذا جميعاً، سوف تغلب في إسرائيل وجهة النظر الاكثر تشدداً واستبعاداً لوجود «شريك فلسطينيّ»، أتجسّدت في «ليكود» أم في «كاديما». وبهذا يتكامل المنطقان، الإسرائيلي والفلسطينيّ اللذان يقول كل منهما إن ما من فوارق في الطرف الآخر. ويُخشى أن يتجه العالم الى إدارة الظهر وترك المنطقة يضاعف النزاع تعفينها فيما تستولي عليها أنظمة قيم ومعايير تنتسب الى عصر آخر. ولا يعود مطلوباً، في حال كهذه، إلا أن تقتبس «حماس» من الشيخ حسن الترابي تجربة البقاء في السلطة من دون انتخابات، وتعطفها على اقتباس آخر من المشايخ الإيرانيين الذين مزجوا اصوليتهم بفساد مطنطن.

أما إذا سارت الأمور على نحو آخر، وقررت «حماس» تغليب «البراغماتية» على ما يقول البعض، بات علينا أن نكرّر مسيرة «فتح» من أولها الى حيث انتهت بها الأمور. وهذا في عالم تقفز به العولمة وتحولاتها قفزات نوعيّة يوماً بيوم!

وأما التذرّع بالقهر الفلسطينيّ، وهو مؤكد صارخ، لتجميل «حماس»، فينسى أصحابه كم كان الألمان مقهورين، بمعاهدة فرساي وبانهيار اقتصادهم، يوم اقترعوا لهتلر! آنذاك قام الألمان بعملية انتحار جماعي، وهذا ما قام به الفلسطينيّون قبل يومين