في ميادين الفرز اللغوي والدلالي بين المعاني التي تبدو متقاربة في ظاهرها:

التعريب مثل الاستطراق: أوانٍ متصلة ببعضها عبر سائل يوحّدها؛ فيُبقيها دائما على نفس المستوى من الارتفاع، أو الانخفاض. والسائل العابر للأواني هو «عروبتنا» التي تديرها الانظمة، ولا أحد سواها. وذلك تبعاً لمصلحتها الوحيدة والمباشرة، اي البقاء.

ومستوى الانخفاض الذي يديره التعريب الآن هو سقف الاستبداد. دونه نبقى «موحدين» متشابهين، ولا حياة لإستثناء بيننا... حق التدخل في شؤون بعضنا عبر مياه الاواني المستطرقة، ليس وليد اليوم. في العصر الحديث، دشّنته أنظمة عسكرية «استقلالية»، «تصديراً» لعروبتها الى ربوع العروبة... ثم جاءت غزوات عربية أخرى، بصيغ المال والديبلوماسية. ورسا التعريب الآن على اصناف من التدخلات، يرفع راية القومية احترازياً؛ لعله بذلك ينعش قلوب «الجماهير» في مشروع الابقاء على السقف التسلطي المنخفض اياه، في وجه «مؤامرات اميركا واسرائيل».

لم يفرز التعريب عروبة؛ بل حذرا ونميمة وتصورات سلبية مسبقة بين الشعوب العربية كافة، خاصة الشعوب الاقرب جغرافيا او التي قرّبها البحث عن الرزق. نوع من العنصرية المتبادلة، جديدة في صنفها: عنصرية الشعوب المغلوبة. العنصرية هذه هي الوليدة السرية للتعريب. لابد من الاعتراف بها، بدل انتظار استفحالها وتحولها الى عنصر مهدد لأمن المواطنين المختلفي الجنسيات. والشوفينية ايضا ابنة التعريب. انظر كيف يعامل قادة بلدان شقيقة ساسة بلدان شقيقة: كأنهم في صفوف الحضانة من فرع السياسة!

شوفينية تقابلها عنصرية، واحيانا تتداخل بها. هذا شيء من ثمار التعريب.

والتعريب يخدم نفسه بنفسه. ممنوع ان تجتمع الشعوب العربية، المواطنون العرب، المواطنون في البلد الواحد اصلا... الحدود مغلقة بينهم، ولا تحتاج دواخلها الى سجون. اما القادة، فيسوحون فوق مياه الاستطراق. رحلاتهم وزياراتهم وصداقاتهم وزيجاتهم... في ما بينهم، على قدم وساق. التعريب في خدمة تعزيز الامتيازات وتمتين وسائل البقاء.

اما المواطن الغارق في مياه الاستطراق، تحت سقف الاستبداد، فممنوع عليه الاجتماع، الا بشرط واحد: ان ينضوي تحت خيمة «العمل العربي المشترك»؛ احد فروع التعريب. فيجول بذلك حراً في مواطن العرب، معزّزاً مكرماً في موائد وفنادق سبعة نجوم...

هناك سمات اضافية للتعريب، يمكنك استنتاجها اوملاحظتها: نفي او سحق الاختلافات بذريعة «مواجهة» الخطط الدولية، في معاندة لا يصدّق نيتها الا من نسي لدغات سابقة. واقصد هنا الاختلاف من كل الاصناف: ليس اختلاف الاوطان، او الهويات «القطرية» فحسب؛ بل ايضا اختلاف الدين والمذهب والعرق والاثنية... وحتى الجنس. التعريب يخرس الاختلاف، لكنه يحييه ويشعله عند حاجة ما: إذكاء فتن بغية «التحكيم» أو «الترشيد» او التبرئة او النسيان...

و»الآخر» الذي يجد فيه التعريب ضالته هو أي آخر. فمياه التعريب في الاواني المستطرقة منخفضة الى حدّ الكراهية. عنده، تبقى الكراهية حاجة وجودية، تتوسل العداوة ازاء كل كائن حي تلقاه، وأوله النفس.

لذلك يهرب التعريب من نفسه، وينكبّ على الصورة، الصورة فقط؛ صورة العرب او المسلمين في العالم. فكل ما استخلصه من «حرب الحضارات» والحرب على الارهاب ومن 11 سبتمبر وما تلاها... هو العناية ب»الصورة». ولا مرة الواقع. فهذا الاخير لا هو قابل للمعرفة، ولا النقد ولا بالتالي التغيير. لذلك فان اي نقد بالنسبة لـ»التعريبيين» ما هو الا «جلد للذات». فالذات تُخفى عند التعريب، او تختبىء خلف عجرفتها ومعاندتها.

اكثر من تكبّد التعريب هم الفلسطينيون. اصحاب القضية العادلة، التي اعتاش عليها عتاة التعريب. لم يتدخلوا في شؤون لا تعنيهم باسم العروبة وعدالة القضية، ولا انشأوا فصائلهم المسلحة الخاصة بامرتهم وسط هذا الشعب، ولا أنهوا من لم يعجبهم من بينهم او فلّتوا جماعتهم عليهم في حروب مخيمات دامية، ولا سهلوا لأعدائهم الطريق فحسب. بل افرغوا الطاقات الفلسطينية خدمة لبقاء انظمتهم وصفقاتها المستديمة مع الغرب الذي «تقاومه».

هذا هو التعريب.

اما العروبة فشيء آخر. هي بالضرورة جديدة. استنزفها التعريب، وهي الآن في طور اعادة التكون، بعد كل الضربات التي الحقت بها. هي ليست ضروة ايديولوجية، بقدر ما هي واقع. لسانها الواحد كاف الآن. فاللسان ثقافة، والثقافة معانٍ ومسالك ومخيلات. هذا واقع ادنى.

والعروبة هذه لا تلغي الاختلافات الوطنية، او»القطرية». والاوطان، هي واقع ايضا (عذراً لكارهي الاوطان). أوجدها الاستعمار القديم اعتباطاً او خدمة مصالح؛ لا فرق الآن من حيث النتيجة الواقعية الاخرى. وهي ان هذه الكيانات الوطنية صار لها عمر الآن، أجيال وقصص وثقافة وتجارب. العروبة لا تتناقض مع الوطنية القطرية. انها فقط تلبسها الحضارة الاخيرة، اللسان الاخير. ولأنها ليست قسرية كالتعريب، فلا بد لها ان تعترف بمن سبقها: فينيقيون، فراعنة، اقباط، مسيحيون، يهود... وهي هويات سابقة لم تمحى الا في خطاب التعريب، الغازي دائما، ولو رثّت حاله.

إعتبار هذه الهويات السابقة على العروبة، نعمة العروبة لا نقمتها. والتعامل مع الاوطان بالتالي على انها واقع مرحّب به، هو سبيل العروبة المتحرّرة من قيود التعريب الانصهارية. «إنصهارية» تحت نفوذها وقيادتها. لا بين شعوبها او مواطنيها على اي حال. وفيما التعريب يضع دائما خطا، سقفا لا يُخترق الا بهزة دولية. فالعروبة هي العمل على رفع هذا السقف، والتعامل مع الاختلافات «الوطنية» والما دون وطنية على إغناء للعروبة، لا عائق امام تحققها. أي الخروج من قوقعة الذات الكارهة لنفسها ولغيرها والباحثة عن اي آخر تكرهه، الى ذات مقبلة على نفسها، لا تجرحها عيوبها، ولا يحرجها تعدّدها وهو مصدر ثرائها المدفون.