ربما لم يكن اتاتورك يبحث عن "التيار الثالث" في لحظات العنف التي رافقت إعادة التأسيس للدولة التركية. فأدبيات تلك المرحلة تحدثت وبشكل مفصل عن "المذابح القومية"، لأن تركية التي أنهت مركزية الدولة العثمانية، شهدت التحول الدولي الذي أعقب "مؤتمر باريس" .. وربما استفادت من هذه التجربة التي شهدت تصفية الدولة العثمانية، لكنها في نفس الوقت وضعت العالم على محورين أساسيين يسعى الأول إلى تصفية المهزوم. لكن تركية الطرف الأضعف في هذه المعادلة استطاعت النفاذ إلى جوهر المعادلة الأساسية في الشرق الأوسط، مستفيدة من واقع الانتداب لتنهي أهم المسائل العالقة، أو تلك التي نتجت عن الهزيمة في الحرب العالمية الأولى مثل معاهدة "سيفر".
وإذا كانت تركية في مرحلة "بناء قوميتها" رسمت ملامح شوفينية بقيت في أدبيات المنطقة، لكنها في نفس الوقت وضعت صورة التحول في "أزمة الاستقطاب" خلال الحرب العالمية الثانية، رغم انها، جغرافيا على الأقل، في صلب الصراع الذي دار بعد اجتياح ألمانيا النازية لشرقي أوروبا. هذا التحول نقلها من "التيار الثالث" إلى موقع جديد بعد ان أصبحت ضمن سياسة التحالفات في خمسينيات القرن الماضي، وأصبحت أيضا عضوا في حلف الناتو.
نموذج "التيار الثالث" التركي يوضح أن "الوسطية" لا تعبر عن هذا المفهوم، بل ربما تعاكسه. لأن "التيار الثالث" هو مخرج من الأزمة عبر إيجاد "آليات التحول". وهذه لمهمة تفترض في النهاية أن ينحاز هذا التيار، أو أن يتخذ موقعه الجديد بعد إنجاز عمليات التحول وسط الأزمة. فتركية التي بدا وكأنها القوة المحايدة خلال الحرب الثانية، كانت تقوم بعمليات الانتقال إلى مساحات جديدة مستفيدة من ظرف دولي خاص، ومن وضعها الداخلي الذي يضم عمليا التناقضات الخاصة بالشرق الأوسط. وإذا كان طابع التنوع فيها دفعها للممارسة العنف، فإن هذه الآلية لا تتكرر لأن مسألة بناء دولتها تمت وسط العنف الذي اجتاح العالم أثناء حربين عالميتين.
تركية تحررت من "الوسطية" لأنها وفق قياس "التيار الثالث" أنجزت التحول. ومهما كان موقفنا من الحدث الذي رافق هذا التحول، لكنه في النهاية اتخذ صفته النهائية بعلمانية الدولة من جهة، وبالميل نحو الغرب بدلا من التعامل مع العالم الإسلامي. وإذا كان هذا التحول يوحي بمسار خاص لكنه يوضح أيضا أن بناء التيار الثالث هو في النهاية تحرر من تقليدية المفاهيم و "إنجاز التحول". وهو ليس الحياد تجاه الصراع، داخليا أو خارجيا، بل وضع الصراع في موقعه المحدد من عمليات الانتقال نحو الدولة الحديثة.
تركية في النهاية هي تجربة للقراءة، وهي أيضا حالة تربطنا معها عوامل اجتماعية مختلفة. وربما من الضروري اليوم رؤية مفهومها في التيار الثالث وما يمكن أن يقدمه لأي حالة مستقبلية.