تجري في بعض المؤسسات والمراكز الثقافية في سوريا عملية مراجعة نقدية لمجموعة من المفاهيم السوسيولوجية والسياسية والثقافية، التي جرى التعامل معها منذ عقود وحتى الآن في ضوء منهجية شمولية دوغمائية، غالباً ما وجدت تطبيقات لها بصيغ سياسية استبدادية• ويبرز في مقدمة تلك المفاهيم ما يتم التعرض له تحت عناوين: ضرورة الإصلاح، وحقوق الإنسان، والدولة الوطنية، والدستور، إضافة إلى الديمقراطية، والوحدة الوطنية والتأثير المتبادل بين الداخل المحلي- الوطني والخارج••• وغيرها• ومؤخراً انعقدت ندوة حول المواطَنة وحقوق الإنسان وموقعها من ’’الدعوة إلى إصلاح وطني ديمقراطي’’، عالجت بعض ذلك بشيء من التدقيق المعمق والشجاعة البناءة•

لقد لوحظ أن الحديث عن ’’حقوق إنسان’’ علا وتعاظم بعد حربين طاحنتين عالميتين أودتا بعشرات الملايين من البشر، وفي سياق ذلك وفي أعقابه تكوّن وعي عالمي بهذه المأساة وبالسعي إلى إيجاد السّبل، التي تمنع العودة إلى مثلها على أيدي جموع من أصحاب المصالح الكبرى والعسكريين المغامرين هنا وهناك، فكان أن انتهى قادة الدول الكبرى، والتي خبِرت آلام الحربين المذكورتين على نحو أو آخر، إلى التوافق على ميثاق عالمي يحظر الحروب ويمنعها، فنشأ ما أطلق عليه ’’الإعلان الدولي لحقوق الإنسان’’ عام •1948

وكي لا نقع في الوهم، يجدر القول إن مفهوم ’’حقوق الإنسان’’ لم يظهر في التاريخ مجرداً، أي مَقصيّاً عن القوة والسلطة والمصالح والإيديولوجيا• ولذلك حدث خلط عفوي أو قصدي بين نسقين من تلك الحقوق؛ الأول يتمثل فيما يعتبر ’’حقوقاً طبيعية’’، أما الثاني فيتجسد فيما يعتبر حقوقاً ’’وضعية اكتسابية’’• والإشكال الذي حدث نتيجة ذلك الخلط وتلقّفته نُظم الاستبداد العربية بكثير من الاهتمام والاحتفاء، قام على الاعتقاد بأن السلطة المهيمنة (وليس الدولة) هي صاحبة الحق في منح هذا الحق أو ذاك لـ’’الرعيّة’’••• فكم مِن مُنافح عربي من أجل حقوقه الدنيا قُتل أو دُفن حياً، ناهيك عن مئات الآلاف الذين أدخلوا السجون لأسباب سياسية أو اجتماعية••• ويبدو الأفق كأنه أغلق أمام أولئك في سجونهم، إلى أن ظهرت بواكير النظام العالمي الجديد، الذي إذ جاء، فإنه يلوّح لنظم الاستبداد العربية بعصا غليظة أن ارفعوا أيديكم عن بلادكم أمام استحقاقات الإصلاح والتغيير الديمقراطي• وتعاظم هذا التلويح ليصبح مطلباً في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، وروفِق بأمور عديدة أفضت إلى ’’حُطام’’ حُطّمت بمقتضاه كل القطاعات الحيوية الفاعلة في المجتمع العربي، والسوري من ضمنه• واللافت أن الحطام العربي المذكور يُفصح عن معالمه ومخاطره في تعثّر المشروع الإصلاحي الديمقراطي في سوريا؛ فالمشكلات المعلقة مما قبل نشأة النظام العالمي الجديد، والمشاكل العظمى التي اندلعت مع نشأته، تضع البلد أمام مصير يكاد يقارب الانهيار• أما ثالثة الأثافي فقد تتمثل في أن هذا المشهد الكارثي غائب -في حقيقته وفي براهينه- عن أصحاب القرار السياسي والاستراتيجي، أولاً؛ وفي أن هؤلاء ما يزالون يصرون على حصر القرار بأيديهم ويرفضون إشراك القوى الحية في صوغ القرار وتحويله إلى واقع مشخّص، ثانياً•

وثمة حالة أخرى تتصل بخصوصية الوضع السياسي في سوريا، إذ تواجه هذه الأخيرة استحقاقاً دولياً مهماً يتصل بالتحقيق في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري• فبغضّ النظر عن النتائج، التي ستنبثق عن هذا التحقيق، فإن الزمن الذي سينقضي حتى جلاء الحقيقة قد يكون طويلاً، بعد أن انقضت منه فترة بلغت العام• ومن شأن ذلك أن يقدم من المسوغات ما يدعو النظام السوري إلى إرجاء الحياة السياسية والاقتصادية الداخلية، أي إلى القول إن استحقاق الإصلاح إنما يأتي لاحقاً، بعد التخلص من المشكلات التي يثيرها التحقيق المذكور: إنها مشكلة جديدة تمثل امتداداً مفتوحاً لمثيلات لها كثيرة تتحدر من السابق وتتلخص في الشعار ’’لا صوت يعلو فوق صوت المعركة’’•

إن الأمر، والحال كذلك، يبدو وكأنه دخل حيّز المستحيل فيما يتصل بالإصلاح الوطني الديمقراطي في سوريا، وإن لم يكن كذلك حقاً• من هنا، يعوّل الكثيرون على المراجعة النقدية القائمة هناك بخصوص الفكر السياسي، وذلك يداً بيد مع ارتفاع وتائر الحراك السياسي والثقافي الديمقراطـي، تأكيداً على حقوق الإنسان في ظل مشروع الإصلاح المطلوب وقبل مزيد من التقاعس القاتل•