شكّل فوز «حماس» في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية مفاجأة للعديد من القوى السياسية الدولية والإقليمية والفلسطينية، واعتبره بعضهم بمثابة زلزال سياسيً يقتضي التوقف عنده طويلاً، مع أنه لم يأت بطريقة غير شرعية، إنما بواسطة صناديق الاقتراع، ومن خلال عملية ديموقراطية تتطلع إلى ممارستها شعوب المنطقة العربية كافة.

إنها – ببساطة – ليست نهاية العالم، كما يشاع، لأن ما حملته صناديق الاقتراع أكد على حاجة فلسطينية داخلية، وعلى نهاية نهج بعينه، وأعلن تحولاً نوعياً في تاريخ القضية الفلسطينية، والصراع العربي - الاسرائيلي، وحمل معه الحركة الإسلامية الفلسطينية إلى السلطة، بعدما تحولت زعامات حركة «فتح»، التي قادت الشعب الفلسطيني أكثر من نصف قرن، نسخة مصغرة للنظام العربي، وصارت سلطة تتناثرها ضروب الفساد والترهل والفوضى والضغوطات الأميركية والإسرائيلية.

سطّر فوز «حماس» أول تداول سلمي جذري للسلطة في بلداننا العربية، وستمتد آثاره إلى المحيط العربي والإقليمي، ويلاقي ارتدادات على الجانب الإسرائيلي، بخاصة السياسات والممارسات المدعومة أميركياً تجاه الشعب الفلسطيني وزعيمه التاريخي ياسر عرفات.

وعلى رغم كل ما وقع على الشعب الفلسطيني فإنه لم يرضخ ولم يستكن، بل نهل من مخزونه النضالي ليرّد على كل أشكال الضغط والانحياز ضده. فمنذ نحو قرن يعاني الفلسطينيون انعدام العدالة الدولية واغتصاب حقوقهم ومصادرة حريتهم، فضلاً عن الحرمان والقمع والقتل والمجازر. ويمكن القول ان الظلم الذي وقع على شعب فلسطين لا مثيل له، بدأ مع الانتداب البريطاني، واستمر مع خلق دولة إسرائيل، وتفاقم مع الدعم الأميركي والأوروبي للسياسيات الصهيونية، ولم ينته مع دخول أرييل شارون في غيبوبته المرضية الطويلة. وترافق ذلك مع مجازر العصابات الصهيونية وموجات الطرد والإبادة، ثم جاء مع يساوي بين كلمة «فلسطيني» وكلمة «إرهابي» ليبلغ الإقصاء درجة غير مسبوقة في تاريخ الشعوب، ومع ذلك كله استطاع الفلسطينيون أن يعودوا إلى مسرح التاريخ بقوة من خلال الكفاح المسلح، ثم السير في نفق عملية سلمية لم تثمر أدنى درجات المطلوب فلسطينياً. وكانت صورة الفلسطيني ترتسم شيئاً فشيئاً في سياق الكفاح الطويل والدؤوب، وهناك من حاول تشويه هذه الصورة في أشد درجات الانحياز الأميركي لإسرائيل مع هيمنة المحافظين الجدد على الإدارة والقرار في الولايات المتحدة.

انتصار «حماس» سيجعل الأنظمة العربية – خصوصاً في الدول المجاورة - تواجه مسؤوليات جديدة، وربما خيارات صعبة. فهذه الأنظمة تعودت البقاء في الحكم إلى ما شاء الله، كما تعودت أن تردّ على كل من يطالب بالتغيير والتداول السلمي للسلطة بالقول: إما نحن أو الفوضى. وجاءت الممارسة الديموقراطية في الأراضي الفلسطينية لتعلن أن تغيير السلطة لا يفضي إلى الخراب والفوضى، وليس نهاية العالم، بل بداية عالم جديد، يختار فيه الناس ممثليهم وفق ما يرونه في مصلحتهم ومصلحة قضاياهم ووطنهم.

ومع مجيء الرئيس جورج بوش وأحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 طلع علينا المحافظون الجدد ليطالبوا بتغيير الكيانات الوطنية والسياسية وتغيير الطبيعة والسلوك. وأعلن بوش عن مشروع يزعم فيه نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط الكبير. لكن «نشر الديموقراطية» على الطريقة الأميركية ليس سوى تحقيق لنزوع مغلف بدعوة إيديولوجية، وتسويغاً لنزعة راديكالية في السيطرة، فالديموقراطية كما برهن المثال الفلسطيني تؤمن إجماعاً شعبياً من خلال قوة انتخابية منظمة يردّ على السياسات الأميركية، ويرفضها كما رفضتها شعوب بلدان أميركا اللاتينية وبعض البلدان الإسلامية.

لذلك فإن الإدارة الأميركية تواجه مأزقاً مفاده إما رفض خيارات الشعوب أو احترامها، ذلك أن الديموقراطية في بلداننا العربية مطلب ملحّ، لا يحقق ما تسعى إليه الإدارات الأميركية، بل يوفر التربة المناسبة للوقوف بوجه مخططاتها ومشاريعها.

لقد حمل الاقترع الفلسطيني رداً واضحاً على الممارسات التي حشرت أصحابها في منطقة ضيقة من اللهاث وراء الدولة من دون مقومات أي دولة، حتى بدت دولة فارغة من أي مضمون، ولا تمتلك أياً من ثوابت العدال والإنصاف والحياة سوى كونها «دولة» شبه متخيلة. والسبب في هذا الحشر هو الاستقالة من السعي إلى التحرر الوطني والنزوع نحو العمل على الهوامش والوعود اللفظية، وهي هوامش مرتبطة بأشد درجات الغطرسة الإسرائيلية والأميركية.

ربما ستنشأ في المدى المنظور على الأرض الفلسطينية حال سياسية معقدة، نظراً الى تعقيدات نشوء السلطة ووظائفها. لذلك فإن الوضع الفلسطيني يحتاج قيادة وطنية موحدة، تضع نصب عينيها مهمات إصلاح داخلي حقيقي، وتعمل بشكل واقعي مع كل تعقيدات التي رافقت السلطة والتزاماتها. ويبقى على «حماس» أن تعمل على احترام إرادة الفلسطينيين، أفراداً وجماعات، خصوصاً في ما يتعلق باحترام الحريات الشخصية والحريات العامة وحقوق المواطنة وحق الفرد في اختيار مسار وخصوصيات حياته الشخصية والدينية.

إنها تحديات لا تقل أهمية عن تحدي الإرادة الذي حمل «حماس» إلى موقع السلطة، لذا فالمطلوب التعامل مع كل القوى والأطراف الفلسطينية بروح الاعتدال والحرص على الانتقال السلس والسلمي. ذلك أن المراحل الانتقالية، عادة ما تكون شديدة الحساسية وسريعة الاحتقان والانفلات. وهنا يقتضي الاحتكام إلى المصلحة الفلسطينية، وإلى تعزيز الوحدة الوطنية في إطارها الواسع والرحب.