أثار انتباهي، وأنا أتابع المشاهد التلفزيونية القادمة من غزة يوم الجمعة الماضي، قيام بعض من ناشطي فتح تحت صدمة خسارة الانتخابات التشريعية، بحرق السيارات وإطلاق الرصاص من بنادقهم الاوتوماتيكية. آنذاك لم أتمكن إلا وأن أفكر في ياسر عرفات الذي زرع عادات ما زالت تصوغ وعي شعبه وسلوكه.

تمكن عرفات من تحويل الطموحات الفلسطينية إلى قضية رومانسية. فهو أسس رموزا: الكوفية واللحية القصيرة والبندقية. وهو كوّن أسطورة وطنية وغذى في أتباعه العقلية الثورية التي تعتبر النضال السياسي فعلا بطوليا والعمل السياسي «الناشط» والمترفع، هو أفضل من الحكم الدنيوي العادي، والقوة أفضل من المساومة، والخصوم هم أشرار، والإرهاب نبيل، والانتصار النهائي سيتحقق بطريقة مهيبة.

تسلل العجز في منظمة عرفات مع تقدم السن فيه، لكنها لم تصبح قط عادية. لذلك نما منافس في فلسطين لـ«فتح». و«حماس» هي لطيفة مع الناس العاديين لكنها تشبه كثيرا فتح. فحماس هي أيضا تتحرك وفق أيديولوجية بطولية وثورية. وهي ترى أيضا السياسات ضمن سياقات مطلقة باعتبارها انتقاما أو مجدا، انتصارا أو شهادة. ولكن يمكن القول إن الإسلامويين في حماس ليسوا متطرفين مثل زعماء إيران، حسبما يقول دينس روس مبعوث الولايات المتحدة السابق، لكن إلقاء نظرة على ميثاقها يكشف عن عقلية مملوءة بالكراهية.

وإذاك كانت فتح وحماس متنافستين، فكلاهما يفتقدان للعقلية الديمقراطية. فالديمقراطية في كل تجلياتها اليومية هي بورجوازية، وتخلو من روح البطولة بالنسبة لهما. إنها حول انتصارات جزئية وهزائم جزئية وقضايا لا يتم حلها أبدا ولا تختفي أبدا.

مع اجتياح مد ديمقراطي عبر الكرة الأرضية مدفوعا لا بالولايات المتحدة فقط، بل بروح العصر أيضا، ووصلت بفضل ذلك الانتخابات إلى فلسطين. وكان على الناخبين أن يختاروا ما بين حركتين ثوريتين، واحدة فاسدة والأخرى لطيفة مع احتياجاتهم.

وخيارات سيئة من هذا النوع أصبحت شائعة في العالم العربي، فالنجاح الديمقراطي يعتمد على ناخبين وزعماء ديمقراطيين، لكن هؤلاء الناخبين والزعماء لا يمكن تكوينهم وسط انظمة استبدادية وإرهابيين. وتحت شروط كهذه فإن التحول صوب الديمقراطية شبيه ببناء طائرة خلال وقت انطلاقها.

لكن الطيران قد بدأ والتحول الديمقراطي انطلق على عجل. وفلسطين تدخل أكثر المراحل قسوة حينما يُجبَر الرومانسيون والثوريون على تحويلها إلى ديمقراطية مؤسساتية.

هذا هو ما اسميه بقضية التحول الحاسم في العقلية من البطولي والملهم إلى ما هو تعددي وعادي وممل، من الشعر والأسطورة إلى النثر والإدارة. حقق المؤتمر الوطني الأفريقي ذلك التحول تقريبا بالكامل في جنوب أفريقيا وهذا بفضل نلسون مانديلا. والروس حققوا ذلك بشكل جزئي لكنهم ما زالوا يفضلون سياسات القوة والتشدد التي يشجع على استمرارها التعليم الشيوعي الطويل الأمد. ليس هناك مانديلا يقود الفلسطينيين باتجاه هذه العقلية الجديدة، فهناك فقط الإرهابيون وأصدقاء الإرهابيين أو سيئ الطالع محمود عباس.

قامت الولايات المتحدة بالترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط مراهنة بأن التحول حتى مع ما يحمله من آلام لن يكون كارثيا. لكن عليها أن تعترف بذلك مثلما قال جيفري غولدبرغ من مجلة النيويوركر، إذ أن الحمى في بعض الأحيان لا تغادر جسم المريض بعد شفائه بل أحيانا تتركه وهو ميت.

وأول شيء يمكننا أن نقوم به الآن هو جعل الشعب الفلسطيني محاسبا على خياره. فعن طريق عزل حماس بشكل واضح يمكننا أن نجعل الناخبين الفلسطينيين يدركون أن اختياراتهم لها نتائج أيضا. ففي الأنظمة الديمقراطية لا تشكل الخيارات الراديكالية سوى تدمير ذاتي حتى لو شعر الناس بالراحة لفترة ما.

وإذا رفض الأوروبيون عزل حماس وإذا تسامحوا مع الراديكالية، فإنهم سيدمرون هذه الدائرة من المحاسبة. وهم سيكافئون العقلية الثورية ويوقفون الزخم الذي يجعل هذه الفترة من أكثر اللحظات الواعدة وأكثرها خطورة أيضا. فهذه هي اللحظة التي قد تظهر فيها حركة ديمقراطية حقيقية تعارض كلا من حماس وفتح القديمة. سيكون العثور على تلك المعارضة ودعمها هو المرحلة القادمة للتحول طويل الأمد.