منذ ان طُرحت مسألة الديموقراية على العالم العربي، قال الديموقراطيون الأشد تعقلاً ان المسألة أعقد مما تُطرح به. فالقيمة هذه، وهي الأهم في ما انتجته السياسة والفكر السياسي، ليست غير واحدة من قيم أخرى تنتمي الى الافق التاريخي نفسه. وهو ما يعني خطل اختيار الديموقراطية وحدها ونبذ سائر الشروط التي رافقتها، أو مهدت لها، في التجربة الأوروبية - مصدر الديموقراطية ومهدها.

ذاك ان الأخيرة وردت، وترد، من داخل سياق أعرض أوله الاجماع حول طبيعة الوطن والوطنية، وبعضه احتكار الدولة للعنف وأدواته، ومنه فصل الدين عن الدولة، وافتراضه الضمني وجود طبقة وسطى، أو نواتها، ناهيك عن توافر درجة معقولة من الاستقرار السياسي والنفسي لدى المقبلين على الحياة الديموقراطية. وإنما للاسباب هذه وصفت الحروب - وهي عكس الاستقرار تعريفاً - بأنها تعطيل للديموقراطية، كما قيل مراراً ان المسار الديموقراطي في «العالم الثالث» ضعيف ومتقطع تبعاً لضعف القيم الأخرى المصاحبة. أما الكتب التي وضعها الأوروبيون في وصول النازية الى السلطة عام 1933، بنتيجة الضعف المذكور، فترقى الى مكتبة ضخمة.

وجاء الامتحان الأول لهذه الديموقراطية المنزوعة من سياقها عام 1989 في الجزائر. فقيل للجزائريين انهم بين ليلة وضحاها، تنقلهم صناديق الاقتراع من جحيم الاستبداد العسكري الى نعيم الديموقراطية. وأدلت التبشيرية الاميركية بدلوها فرحاً وحبوراً وتشجيعاً، وكان ما كان.

لكن التبشيرية هذه صارت نهجاً محكماً متماسكاً مع ادارة بوش، لا سيما بعد جريمة 11/9 وتولي «المحافظون الجدد» تصليب الخرافة هذه وتعميمها. وكان واضحاً، منذ البداية، ان الديموقراطية التي تقتصر على انتخابات لا تستطيع انشاء أجسام سياسية فيما الاجسام المجتمعية غائبة أو محطمة. وهو ما عنى ان استخدام ديموقراطية كهذه لـ «مكافحة الارهاب» يأتي بنتائج مضادة فيضيف الى الارهاب ظفر الشعبوية وتمتعها بالشرعية... اللهم إلا إذا كان القصد جعل المنطقة العربية حقل اختبار دامياً يستمر قرناً ويتأتى عنه عنف أعمى يتهدد العالم بأسره، حتى إذا انتهى القرن الدامي عاد العرب الى رشدهم وتخلوا عن التطرف!

وكائناً ما كان الأمر، وقعت هذه الديموقراطية الخرقاء، التي تختزل بها القيم الأخرى جميعاً، وقوعاً حميداً على طرفين: فإسرائيل، من جهة، اعتبرت انها تعفيها من تنازلات تقدمها للوطنية الفلسطينية، كما تعفي الولايات المتحدة من الضغط عليها للغرض هذا. وما بين تصريحات بنيامين نتانياهو وخطاباته وانجيل ناتان شارنسكي الذي رفعه جورج بوش انجيلاً خامساً، تبلورت معالم التوجه هذا. أما الطرف الثاني فشبان عرب هم، بالتأكيد، ضحايا الاستبداد، إلا انهم وجدوا في تلك الديموقراطية الطريق الاقصر التي تعفيهم من مواجهة مشكلات الاصلاح الديني والتبادل الاقتصادي الأعدل وتطوير أشكال حديثة للوعي السياسي والوطني. وما دام الإلحاح على تذليل الصراع العربي - الاسرائيلي يفضي الى نقد السياسات الاميركية، قرّ الرأي على طي هذه المسألة لمصلحة... الديموقراطية.

وكانت تجربة العراق فساد التهليل للتصويت من دون التوقف عند بواعثه الطائفية. وكان الوعد اللبناني الذي التهمته الطوائف، علماً بأن لبنان يملك من شروط الديموقراطية في العالم العربي أعلاها. وها هي فلسطين تقع، بصناديق الاقتراع في قبضة «حماس».

وهذا، بطبيعة الحال، ليس اقتراحاً بالتعامل مع أنظمة الاستبداد بوصفها قدراً لا يرد. لكن ثمة مكاناً وسطاً بين تفجير المجتمعات وبين الضغط على حكامها لانجاز اصلاحات تدرجية، لا في ما خص حكم القانون فحسب، بل ايضاً في ما خص الفساد والتعليم.

وهي ليست بالعملية السهلة، لا سيما مع بعض الأنظمة الأشد استئثاراً وضيقاً، غير انها تبقى اسهل من الخلاصية الديموقراطية الشعبوية والمكلفة، لا سيما إذا ما اقترنت بضغط فعلي لإقامة دولة فلسطينية توجد مناخاً من الاسترخاء العام في المنطقة.

فهناك، في آخر المطاف، شعوب وثروات أثمن من ان يتم تجريبها ووضعها في ايدي قوى قروسطية تجهل معنى السياسة وتنشر أعلامها ما بين ايران وفلسطين. اما الذين تفرحهم هذه «الانتصارات» لأنها تؤذي اميركا واسرائيل، فيفوتهم كم تؤذينا نحن شعوباً ومجتمعات واقتصادات وعقلاً عاماً. وغداً إذا ما فتح المجال للتفاوض، فاوض الفلسطيني وقد غدا أضعف من ذي قبل.