ليس حدثاً عادياً أو بسيطاً أن يتوجه رئيس الجمهورية الفرنسية جاك شيراك إلى قاعدة الغواصات العسكرية في جزيرة ’’لونغ’’ ليلقي خطاباً من هناك حول الردع النووي• وقد سعى شيراك من وراء ذلك إلى التأكيد على بعض المبادئ وإعلان بعض التوجهات•لم يقل شيراك ’’الردع هو أنا’’ كما فعل الرئيس السابق فرانسوا متيران في ،1983 ولكن خطابه تضمن مع ذلك رسالة ضمنية تذكر بدور رئاسة الجمهورية في هذا الأمر• وأكد من جديد على الطابع الرئيسي الذي يكتسيه السلاح النووي والذي يتمثل في حماية مصالح فرنسا الحيوية، ذلك أن السلاح النووي يعتبر الضمان الأخير لأمن فرنسا في عالم ما بعد الحرب الباردة، ويسمح لها بالتصرف بحرية واستقلالية•ومن أجل إبراز أن الردع لم يعد أمراً قديماً ومتجاوزاً، أشار جاك شيراك في خطابه إلى مسألتي حماية الدول الحليفة وتأمين التموين الاستراتيجي باعتبارهما جزءا من المصالح الحيوية الفرنسية•

وتأخذ الإشارة في خطاب شيراك إلى الدول التي قد تسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل أو تلك التي قد تستعمل وسائل إرهابية بعداً خاصاً في ضوء تطورات ملف إيران النووي، ولكنها لا تشكل قطيعة مع التوجه الفرنسي التقليدي• ذلك أن توجه باريس كان دائماً يعتبر أن السلاح النووي لا يشكل رادعاً للتهديد النووي الأجنبي فحسب، بل رادعاً أيضاً لكل اعتداء على مصالح فرنسا الحيوية وذلك بغض النظر عن الوسائل المستعملة• هذا بالرغم من أننا لم نعد نستعمل مصطلح ’’الردع القوي أو الضعيف’’•

كما أن الحديث كان يدور كثيراً في عهد الجنرال ديغول حول ضرورة ’’الردع في جميع الاتجاهات’’، ما يؤشر على أن الاتحاد السوفييتي لم يكن البلد الوحيد الذي يشكل تهديداً لفرنسا، كما لم يكن البلد الوحيد الذي يفترض أن يحمينا منه الردع• لقد جاء خطاب جاك شيراك بمثابة رد إذن على كل من يعتقد أن السلاح النووي لم يعد منسجماً أو يتماشى مع الوضعية الاستراتيجية التي أعقبت الحرب الباردة والأشكال الجديدة التي تأخذها التهديدات الإرهابية والصراعات المحيطة• صحيح أن الاتحاد السوفييتي قد انهار واختفى، ولكن مصالح فرنسا الحيوية ما تزال موجودة وقائمة، ولذلك فالردع يظل خط الدفاع الأخير الذي يسمح لفرنسا بالتحرك في العالم بثقة وأمان• لقد كان السلاح الفرنسي أيام الحرب الباردة يضطلع بدور أساسي يتمثل في حماية فرنسا من التهديد السوفييتي•

وهذه الضمانة الأمنية هي التي سمحت لفرنسا بالتحرك باستقلالية تامة جعلتها خلافا للدول الأوروبية الأخرى في غنى عن الحماية الأميركية•

وحين قام جاك شيراك بالإشارة إلى السلاح النووي الفرنسي والقضايا الاستراتيجية الراهنة (إيران، الإرهاب)، فإنما كان يسعى من وراء ذلك إلى بعث رسالة أخرى إلى كل من يرى في الأسلحة النووية مصدراً اقتصادياً محتملاً•يمكن القول إن لدى فرنسا ترسانة مهمة قادرة على ترجمة ما ورد في خطاب الرئيس إلى واقع، وذلك بالنظر إلى امتلاكها أربع غواصات مزودة بـ16 صاروخاً، كل واحد منها قادر على حمـل 6 قذائف نووية، و60 طائرة ’’ميراج •’’2000 هذا إضافة إلى الصاروخ ’’إم ’’51 الذي يصل مداه إلى 9000 كيلو متر، والذي من المنتظر أن يبدأ العمل به في 2008-•2010 وحين ركز الرئيس على تنوع أشكال التهديد، فقد كان يقصد أنه لابد من تجديد وتطوير الترسانة النووية، كما أنه لم يكن يسعى من خلال خطابه إلى حماية التراب الوطني فحسب، وإنما إلى حماية الميزانية النووية كذلك• لقد أكد جاك شيراك في نفس الوقت على ضرورة عدم استعمال الأسلحة النووية، وأشار إلى أن الأمر لم يكن يتعلق بالدخول في مخطط لمعركة نووية، ذلك أن الهدف الذي يرومه الردع كان دائماً تفادي الحروب، وليس الانتصار فيها