حتى لا يبدو إرادة الناخب الفلسطيني وكأنها مجرد عقاب لتنظيم أو ثواب لآخر، فإن علينا إدراك المغزى الأعمق للانتخابات التشريعية الفلسطينية. إننا نرى أن مغزاها الأعمق يكمن في أن الناخب الفلسطيني قد صوت لصالح البحث عن طريق آخر، طريق جديد مختلف عن الطريق الذي سرنا فيه في السنوات العشر الأخيرة: أي طريق أوسلو وما تبعه من اتفاقات كشرم الشيخ وخارطة الطريق. لقد صوت الفلسطينيون للخروج من هذا الطريق المغلق والعبثي. وقد فعلوا ذلك بعد أن اكتشفوا أن من يقود الشأن الفلسطيني يتلكأ في الاستنتاج بأن هذا الطريق قد أغلق، وأن الأغلبية الساحقة من الشعب ترى أنه طريق لم يعد ممكنا السير فيه. هذا هو الاستنتاج الحاسم للناخب الفلسطيني.

بهذا فلم يكن الناخب الفلسطيني يعاقب تنظيما ويثيب آخر، وإن كان بالتأكيد قد عاقب عددا لا بأس به من الأفراد الفاسدين والمعتدين عليه وعلى قيم العدالة والمساواة، بل كان يريد للحركة الوطنية الفلسطينية أن تخرج من هذا الطريق المسدود وأن تبحث عن طريق آخر، وخيار مختلف. ومن الطبيعي أن يعتقد الناخب أن من ظل خارج أوسلو هو الأفضل للبحث عن هذا الخيار، ربما. لذا أعطى لحركة "حماس" أصواتا أكثر مما أعطى لحركة "فتح".

نحن نعتقد أن فهم هذه الحقيقة سيمكن الحركة الوطنية من الوصول إلى اتفاق يلبي إرادة الناخب، ويأخذ بعين الاعتبار حقائق الواقع الصلبة التي تقول أن اتفاق أوسلو قد انتهى منذ زمن بعيد. لقد أنهاه الإسرائيليون والأميركيون. لقد مات وشبع موتا، والإصرار على الحديث عنه والتمسك به لن يقودنا إلى ما نريد، بل سيبقينا داخل النفق المظلم ذاته. لذا فإن علينا أن نرى في الانتخابات التي حدثت فرصة ملائمة للانسحاب من أوسلو، الذي انسحب منه الإسرائيليون والأميركيون وتركونا وحدنا نسبح بحمده.

لقد انتهى أوسلو وخارطة الطريق إلى عبارة كاذبة تتردد كل يوم، عبارة "عملية السلام". لقد كان هناك عملية لكن بدون سلام. فالإدارة الأميركية تريدنا أن نغرق في العملية وأن ننسى السلام بدولته الموعودة. أكثر من ذلك، يمكن القول أنه لم يعد أصلا من "عملية" خلال السنوات الثلاث الماضية بعد أن اشترطت إسرائيل على الجانب الفلسطيني حزمة من الشروط لكي تقبل بمجرد الجلوس معه على مائدة المفاوضات. مع ذلك فما زال هناك من يعتقد أنه "إذا فشلت المفاوضات فليس أمامنا سوى المزيد من المفاوضات". هذا المنطق هو منطق من ينزع خياراته كلها. وحين تنزع خياراتك فإن عدوك لن يكون مجبرا حتى على مفاوضتك. وسوف تستجديه لمجرد أن يقبل الجلوس معك. وهذا ما يحصل أمام أعيننا كل يوم. فقد أمضت السلطة الفلسطينية العامين الماضيين في استجداء إسرائيل بالعودة إلى طاولة المفاوضات.

لقد صوت الناخب الفلسطيني ضد نزع خياراته. صوت ضد استجداء المفاوضات، صوت ضد مفاوضات لا تنتهي ولا تصل إلى نتيجة. لم يصوت لحزب ضد آخر، لم يصوت لحركة "حماس" ضد "فتح"، بل صوت للخروج من هذا المأزق، وعلينا أن لا أن نضيع في تحديد من المنتصر ومن المنهزم. ليس هناك من منتصر. فنحن كلنا غارقون في ظلمة نفق أوسلو. والشعب يريد أن نبحث معه عن طريق لخروج من هذا النفق.

وتخطئ قيادة حماس خطأ فاحشا إذا لم تفهم هذا، ظانة أن الناخب الفلسطيني فوضها بنزع العلم الفلسطيني عن مبنى المجلس التشريعي في رام الله ووضع علم حماس بدلا منه. كما يخطئ رئيس مكتبها السياسي إذا ظن أن التصويت كان تفويضا له بإدخال الشعب الفلسطيني، تابعا صغيرا، في محاور وأحلاف إقليمية لخدمة حكومات هذه الأحلاف. لقد قاتل الشعب الفلسطيني أربعين عاما لكي يحافظ على استقلال قراره الوطني، وهو لم يصوت للتفريط به.

إن الخروج النفق المعتم يقتضي الوصول إلى اتفاق جديد بين القوى السياسية يأخذ بعين الاعتبار رأي الشعب الذي عبر عنه في الانتخابات. وهذا يقضي أن يكف البعض عن مطالبة "حماس" بالانغماس في أوسلو ومتطلباته باسم الاتفاقات والشرعية الدولية، وأن يكف عن مطالبتها بالاعتراف بإسرائيل. فما هو مطلوب فعليا هو أن تضع المؤسسات الفلسطينية الوطنية جانبا هذا الاعتراف الذي بات عبئا مكبلا لنا، وأن يتم ذلك بطريقة لا تؤذينا. فالاعتراف يكون بين دولتين سيدتين لا بين منظمة ودولة. لقد اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير دون أن يترتب على هذا اعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني بما فيها حقه في دولة مستقلة وذات سيادة، تكون عاصمتها القدس، في حين اعترفت منظمة التحرير بدولة إسرائيل. علينا تصحيح هذا الخطأ، لا أن نورط فيه أطرافا جديدة كحركة "حماس" وغيرها. على العكس، يجب حثها على عدم الإقدام على هذه الخطوة إذا بدا أنها تفكر في الإقدام عليها من أجل أن تتمكن من تشكيل حكومة. فليس عن طريق إغراق من لم يغرق نتمكن من الخروج من المأزق. كما لن يتم الخروج عن المأزق الوطني عبر التدخل في حريات الناس الشخصية والعامة واللجوء إلى الإرهاب الفكري، وقمع حرية المعتقد والرأي والسلوك المكفولة بالقانون الأساسي ووثيقة إعلان الاستقلال. فالديمقراطية والتعددية وحرية الرأي والفكر والمعتقد هي أداتنا في مواجهة الاحتلال والقمع والإذلال الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب وحركته الوطنية.
لا حاجة لاعتراف "حماس" أو "فتح" أو غيرهما بإسرائيل. فالاعتراف عملية تخص علاقة دولة بدولة. الدولة الفلسطينية حين تقوم على الأرض، وعلى حدود الرابع من حزيران، هي التي يمكنها أن تقدم على اعتراف متبادل. وقبل قيام دولة فلسطينية مستقلة لا يمكن القبول بالحديث عن الاعترافات، لأنه العبث بعينه كما ثبت لكل ذي عين.

وعلى أساس هذا المبدأ يمكن الوصول إلى اتفاق وطني جديد. فهذا المبدأ يعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني، الذي يتضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، واحترام قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالحقوق الوطنية الفلسطينية. وهذا يعني أن تتراجع قيادة "فتح" عن أوهام اتفاق أوسلو وخريطة الطريق، وأن تتراجع حماس عن الشعارات الهوائية الكبيرة، التي لن يفهمها العالم، وأن تتوقف عن التكتيكات المغامرة التي صاحبت برنامجها غير الواقعي.

هذا الاتفاق الوطني لا يعد إلا باستمرار النضال. لا يعد الشعب بالراحة، بل يعده بسنوات أخرى صعبة من المقاومة. لكنه اتفاق لا يغرق هذا الشعب بالأوهام. ونحن نعتقد أن الشعب الفلسطيني بتصويته الحاسم في الانتخابات أظهر أنه على استعداد للنضال والمقاومة. فمن ينتخب للخروج من أوسلو وتوابعه يدرك أن عليه أن يصمد وأن يدفع ثمن الصمود.

لقد كانت الانتخابات الرد الفلسطيني على نظرية (كيّ الوعي الفلسطيني) التي أطلقها رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق أثناء اجتياح مدن الضفة تحت مسمى عملية "السور الواقي" التي هدفت إلى إرغام الشعب الفلسطيني على أن يغير مواقفه، وأن يخفض سقف مطالبه الوطنية. لكن وعي الشعب الفلسطيني ظل سليما. لقد تم اجتياح كل بيت، لكن هذا الوعي لم يتأثر، بل ازداد تمسكا بالحقوق. لقد خرج وعيه بعد عملية الكيّ المفترضة أكثر صفاء ووضوحا. وقد كانت نتيجة الانتخابات هي الدليل الحاسم على ذلك: نحن لم ننكسر، هكذا قال الشعب الفلسطيني لقادة إسرائيل وجنرالاته.

لقد منحتنا الانتخابات التشريعية الفلسطينية فرصة لا تقدر بثمن للتدقيق في خياراتنا، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، وإعادة الاعتبار إلى المشروع الوطني عبر إخراجه من وحل أوسلو. لقد فتحت ثغرة في جدار أوسلو، الذي بدا وكأنه قدرنا ومصيرنا الذي لا مفر منه. لذا فلنكف عن الحديث عن المنتصر والمهزوم كي نجمع قوانا من أجل مواجهة الاحتلال على أساس إعادة الاعتبار للمشروع الوطني. ولتكن الانتخابات الفلسطينية انتصارا لنا وهزيمة للمحتل.