أنور بيجو

رحم الله ذلك الرفيق والصديق ، كان يروي لي الحكاية المعروفة عن كاهن في إحدى قرى جبال لبنان ، حيث سأل مواطنٌ الكاهنَ وهو يصعد إحدى التلال : إلى أين أنت ذاهب في هذا الصباح الباكر يا ( أبونا ) ؟؟ أجاب الكاهن : ذاهب إلى ضيعة ( كذا .... وهي ضيعة صغيرة جداً ) لأعمّر كنيستين . فقال المواطن : كنيستان يا ( أبونا ) ؟؟؟ فقال الكاهن : طبعاً ، إذا عمّرنا نحن ( الروم ) كنيسة ، فالموارنة سيعمرون مقابلها كنيسة .

وأيضاً ، وفي مساحة لا تتجاوز العشرة آلاف كيلومتر مربع إلا بقليل ، تستطيع أن تشاهد وأن تسمع كل ما يخطر في بالك من متناقضات ، أو على الأقل من اختلافات تفصلها مسافات شاسعة .... تستطيع أن تشاهد مذيعة التلفزيون بثياب تكاد لا تذكر على قناة المؤسسة اللبنانية للإرسال ( L.B.C ) ، وتستطيع أن تشاهد مذيعة التلفزيون مدثرة بكمّ هائل من الثياب على قناة المجموعة اللبنانية للإرسال ( المنار ) ..... تستطيع أن تشاهد أعضاء الـ ( ستار أكاديمي ) على الأولى ، وأن تشاهد الدعاء للرحمن على الثانية .... تستطيع أن تستمع إلى نمط الأسئلة في ( لمن يجرؤ ) على الأولى ، والأسئلة من المؤمنين لفضيلة العلاّمة ... على الثانية ........ تستطيع أن تسمع أن سوريا الحليف الصديق ، و ( إسرائيل ) العدو اللدود ، وأن تسمع عكس ذلك تماماً .... وأن مزارع شبعا لبنانية ، وأنها ليست لبنانية ..... وأن سلاح المقاومة سلاح غدر ، وأنه العِرض المقدس ... وأن المقاومة تعني الميليشيا ، لكن لفظة ( القوّات ) لا تعني شيئاً ولا أحد يتساءل لماذا هي ( قوّات ) إن كانت بدون سلاح ؟؟؟؟.........

وما سبق نموذج ليس غير ، والنماذج كثيرة جداً ، لكن يجب التأكيد أن بعضاً من هذه النماذج وغيرها ، ينطبق أيضاً على الشام والعراق والأردن وفلسطين .... ، وإن كان أحيانا بدرجة أقل وأحياناً بدرجة أعلى ....

مختصر القول أننا أرض خصبة جداً لنمو كل ما يمكن أن يفرّق ، وأن مساحات اللقاء هي في الأساس ضيقة جداً ، وبحاجة إلى إرادة جبارة لإنتاج ما يجمع ويوحّد . لكنّ الأهمّ أنه إن لم يحصل الإدراك والإقرار بأن المسافة بين ادعاءاتنا بأننا نريد وطناً للجميع ، وبين ولائنا الذي بطبيعته الدينية أو القومية وبجوهر بنيته ينفي الآخر ، إن لم يعتبره هو الخصم والعدو ، هذه المسافة هي ما يخرّب الأوطان . ويجب أن نقرّ أنّ المفارقة الكبرى ، هي أننا ( نحن ) التي تختصر الجميع ، هي العدو الأكبر لـ ( نحن ) الحقيقية التي لا تختصر ، وهي حقيقة وفي نفس الوقت العدو الأكبر لـ ( نحن ) التي تختصر، أي حتى أننا أعداء ذاتنا الضيقة .

من الجهل ومهما كانت النوايا حسنة ، لكن ربما من التجاهل المقصود ، وربما النفاق ، القول أننا مجبرون وغير مخيرون على العيش المشترك ، لكن ... في الوقت نفسه ( نعمل ) على نمو ( الخصوصية ) ( الخاصّة ) كمكوّنٍ في المجموع الأكبر ، وكأن هذا ( العمل ) لن يكون الدافع الرئيس للآخر ( للعمل ) على إنماء ( خصوصيته ) ( الخاصّة ) في المواجهة المرتقبة ومهما تأجّلت .

الكل متفق ، أن جوهر المشروع الصهيوني اليوم ، وإن كان بأداة أمريكية أو دولية ، هو ( تقسيم ما هو مقسم ) . لكنّ المخيف ، أنه أيضاً الكل يعمل ، حين يعلي تلك ( الخصوصيّة الجزئية ) ، على إنجاح هذا المشروع الصهيوني ، سواء أدرك أو لم يدرك .

وكنموذج ، ليس من مؤسسة اليوم ، أحترمها بل وأجلّها ، أكثر من مؤسسة حزب الله ، وأقصد الحزب وليس المقاومة ، بسبب حريتها ومصداقيتها ، ونظامها وإدارتها وانضباطها واستعدادها للتضحية ووعيها السياسي ، وإعلائها للمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار .... ، لكن في المقابل ، ليس من شيء يحزنني أكثر من أن ( الخصوصيّة الجزئية ) لهذه المؤسسة الراقية ، كفيلة بدفع ( الآخر ) لإنشاء ما يدافع به عن ( خصوصيته الجزئية ) ، بل إلى ما يواجه به ( الخصوصية الجزئية ) للآخر ، وكائناً من كان هذا الآخر .

إن قوة مؤسسات المجتمع ، هي المعبّر عن قوة المجتمع ، لكن بقدر ما تقوى المؤسسات ذات ( الخصوصية الجزئية ) ، بقدر ما تدفع هذه القوة ( الآخر ) باتجاه إما المواجهة ، أو الشعور بأن ( خصوصيته ) محكومة من خصوصية أخرى ... وهذا يدفع في المستقبل لإنشاء ما يواجه به .....

على المستوى الديني ، فإن من أشدّ الأخطاء في الحياة العامة ، اعتبار أن فصل الدين عن الدولة ، هو عداء للدين ومحاولة لإقصاء فاعليته . وكذلك الأمر ، اعتبار أن العلمانية هي كفر وإلحاد وتنكر للفضائل الدينية ، والخصوصية في النظر إلى المآل الأخير .

وعلى المستوى القومي ، فإن من أشد الأخطاء في الحياة العامة ، إعطاء الهوية مساحة جغرافية تتجاوز دورة الحياة القائمة بين الناس أو تقصر عنها ، أو الإغلاق النهائي على إمكانية امتداد هذه الدورة ونموها ، وكذلك فإن من الأخطاء القاتلة ، إعطاء التسمية العرقية للهوية ومهما كان شكلياً .

ليس عداءً للدين ، لكن من أجل السعادة في الحياة ، فلنبحث عن ( خصوصية لنا / هوية تجمعنا ) ، وعلى أساس الإقرار بها توضع عقائد الأحزاب السياسية وبرامجها .... وليس عداءً لمؤسسات المجتمع المدني ، لكن فلتكن وظيفة السياسة العامة ، هي وظيفة الأحزاب السياسية ، ولتكن وظائف المنتديات والجمعيات وظائف تتطابق مع عناوينها الاجتماعية ولا تتجاوزها ، فإن أرادت فلتسم نفسها بوضوح أحزاباً سياسية .

إعطاء المجال للهوية الجامعة ، سيزيد الاشتراك في الحياة ، والاشتراك في الحياة سيختار طبيعياً وبدون افتعال ، المكان الوسط في إحياء الثقافة التي تجمع ، وإقصاء الثقافة التي تفرق ..... في الملبس والعادات وكل شؤون الحياة .... ومع الوقت سيزول التعالي ، كما يزول الشعور بالدونية ... وسيرسخ مع الوقت التفاعل المحيي والاشتراك في الحياة ، وليس التعايش المهدد ( بالخصوصيّات الخاصّة ) .