يوم التاسع من أبريل 2003 هو اليوم الشهير المشهود الذي دخل فيه الأمريكان بغداد وكانت الصور التي بثتها الفضائيات تنقل ما يحدث في ساحة الفردوس مما شاهده الناس في كل أصقاع الدنيا حين حاول بعض العراقيين الإطاحة بتمثال صدام حسين ولم ينجحوا سوى بمساعدة الدبابة الأمريكية في رمز ذي معان من رموز التاريخ الحديث. لا شك في أن القراء الأعزاء العرب يتذكرون تلك المشاهد في لحظة من لحظات المفارقات العجيبة للسياسة والحضارة تعيد للأذهان ما وقع لآخر الخلفاء العباسيين في نفس بغداد عاصمة العالم الإسلامي يوم العاشر من فبراير من عام 1258 على يد المغول حيث نقل لنا الطقطقي أقرب المؤرخين إلى عصره في كتابه الفخري في الآداب السلطانية كيف انغمس المستعصم بالله في الملذات والصراعات الطائفية وأهمل شؤون الدولة وضاعت حقوق الأمة إلى أن وصلت قوات هولاكو حفيد جنكيز خان إلى أبواب بغداد ثم إلى أبواب قصره واغتالته واغتالت ولديه الاثنين، وصار ما صار من مجازر وحرق كنوز مكتبة بغداد إلى أن احمرت مياه دجلة بالدماء واسودت بحبر الكتب الملقاة فيها. وظلت منطقة الأعظمية إلى زمن قريب تحمل أثار تلك الهمجية وكانت من قبل متنزه العباسيين ومرتع العلماء وجنة الشعراء وقبلة الفقهاء وديوان الترجمة والتأليف.

إنها المصائر العربية المتقاربة في أحداثها والمتشابهة في تداعياتها من فبراير 1258 إلى أبريل 2003 ونحن مطالبون بأن نتجاوز البكائيات إلى الاعتبار لأن الله سبحانه في كتابه العزيز لم يترك مناسبة تاريخية ذكرها إلا وأمرنا بالاعتبار مناديا إيانا بأولي الألباب أي ذوي العقول ونصحنا جل من ناصح بألا نترك على قلوب أقفالها. واليوم ونحن نقف على أعتاب عصر رهيب لم نعد ندرك فيه من هو العدو ومن هو الحبيب ، كما لم نعد نعرف فيه ما هو الحق وما هو الباطل وأين موقع الخطأ من موقع الصواب، من واجبنا أن نقرأ الأحداث بعيون أخرى حفاظا على ما تبقى من عروبتنا. وأتذكر حين أرى الضغوط على دمشق بعد زلزال عبد الحليم خدام رسما كاريكاتوريا على صفحات المجلة الأمريكية/ انتليجنس ريفيو صدر في أبريل 2003 نرى فيه جنديين أمريكيين يقفان في ساحة الفردوس ببغداد ويسأل الأول زميله :"هذه ساحة الفردوس ببغداد وما اسم الساحة الرئيسية في دمشق؟ ويجيبه الثاني: "اسمها ساحة تشرين سيدي". وكما أدرك القارئ الكريم فان القصد من ذلك الرسم المعبر هو أن الرسام الأمريكي الذكي يريد أن يقول لنا بكل وضوح ومنذ التاسع من أبريل 2003 بأن ساحة الفردوس هي الحلقة الأولى من مسلسل قادم،قد تدور حلقاته في ساحات عواصم عربية وإسلامية أخرى. وبالرغم من سيل المواد الإعلامية الغزير الذي امتلأت به وسائل الاتصال في العالم بعد شن الحرب على العراق فأنا لم أنس ذلك الرسم وظل الجنديان اللذان يتحاوران حول الساحات في ذاكرتي إلى اليوم.

هذا هو المشهد الشامي كما يظهر للعالم: دمشق تبدو مثل عين الإعصار وقلبه الحي وحوالي دمشق نجد بيروت لم تزل تبكي شخصياتها المغتالة من رفيق الحريري إلى جبران تويني مرورا بسمير قصير، وفي ضواحي بيروت ما تزال جراح الخيام الفلسطينية تنزف تحت ألوية وكالة الغوث الأممية ، وفي كل لبنان وخاصة في جنوبه ما يزال حزب الله يوقد لهب الكفاح المشروع ضد العدوان والاحتلال، وعلى مسافة قريبة من مدينة صور الأثرية ينتصب الجيش الإسرائيلي في المنطقة ويواصل بناء جدار الميز وينتهك الأرض ويغتال الشباب الفلسطيني ويفرض شروط المنتصرين على الجميع بما في ذلك مرتفعات الجولان، في أمان دائم وفره له الغطاء الغربي الكامل ، حين اصطفت أغلب الدول الأوروبية وراء الرؤية الأمريكية، ونحن حين نلتقي ببعض أصحاب القرار الأوروبيين ممن تربطنا بهم صداقات قديمة نلومهم على هذا الاصطفاف غير الطبيعي والذي يحدث شرخا في عالم متعدد الأقطاب ما لبثت تنادي به أوروبا، نجدهم يردون علينا بأدب بأن مأساة العرب هي عربية ـ عربية، وبأن منطق الدول لا يقف أمام الترددات والتظلمات والتشكيات ، بل هو منطق المصالح وسبق الزمن في زمن لم يجد فيه العرب بعد طريق التأثير على مجرى الأحداث الدولية. وقد يجاملني بعض هؤلاء بالقول بأننا أمة لها حضارة ولا بد لها من يقظة بعد غفوة ومن صحوة بعد كبوة. وهو كلام لطيف لا يغني ولا يسمن من جوع. لأن الحقيقة المرة التي نهرب من مواجهتها هي أننا عجزنا عن إصلاح أنظمتنا السياسية بما يتلاءم مع التحولات العالمية من حولنا ثم عجزنا جميعا عن تنسيق مواقفنا وتوحيد سياساتنا إزاء الأحداث التي تهز منطقتنا. وظلت طبيعة النظام السوري هي عينها التي يستهدفها المستهدفون اعتمادا على نفس نقط الهشاشة والضعف، بعد أن تأملنا الإصلاح العميق من الرئيس الشاب المثقف بشار الأسد. فالإصلاح من الصلاح ومنه أيضا المصالحة بين شرائح الشعب إذا ما ارتاح كل طرف إلى التوجهات الجديدة العادلة ووجد نفسه في حمى القانون العادل من ظلم طائفة وقمع عشيرة وجور حزب.

إننا نفهم أن يلتفت السوريون إلى الجار الإيراني ولكن لا نفهم أن يعوض ذلك الالتفات ضرورة الالتحام بالواقع العربي وضرورة التعاطي مع الغرب من منظور المصالح السورية العليا لا من زاوية الايدولوجيا والتحدي، اللهم إلا أن تكون لنا القوة الكافية وطنيا وقوميا لرفع تلك التحديات بدءا بتحرير الجولان المحتل منذ أربعين عاما!