تعرف إدارة جورج بوش وسفارتها في العراق أكثر من غيرهما أن ما سُميّ بانتخابات “الجمعية الوطنية” في 15/12/2005 كان أشبه ما يكون بمسرحية هزلية ضحك فيها الضاحكون على ذقون العراقيين والعالم، وأن الاقتراع الذي جرى في أثناء مشاهد تلك المسرحية لم يكن تصويتاً حراً ولا شبه حر بقدر ما كان إخراجاً سياسياً لخريطة تمثيلية فصلت سلفاً على مقاس “إحصاءات” افتراضية لعدد أهل المذاهب والملل والنحل وأتت نتائج الانتخابات تقيم على “دقتها” “دليلاً”.

وتعرف أن مطالب القوائم السياسية المعارضة ل “الحكومة” القائمة، الذاهبة إلى وجوب إلغاء الانتخابات ونتائجها وإعادتها جملة، مطالب مشروعة لا غبار عليها إن صح مبدأ إجراء انتخابات في ظل الاحتلال لأن الانتخابات تعرضت لتزوير فاضح، ولأن “المفوضية العليا للانتخابات” أبلت بلاءً حسناً في ممارسة الانحياز لفريق انتخابي بعينه (“الائتلاف العراقي الموحد”)، وتفننت في أساليب التزوير، وصمتت على انتهاكات قواعد الحملات الانتخابية، ومنها تسخير أجهزة الشرطة والإدارة في الدعاية لقائمة بعينها.

ثم تعرف (إدارة بوش) أن تزوير الانتخابات يضخ نتائجه في رصيد ايران ونفوذها الواسع في العراق، وفي رصيد الفئات السياسية المرتبطة بها، ويخصم ذلك من نفوذ أمريكا في العراق ومن قوة المحسوبين عليها من غير المشتركين بينها وبين إيران من العراقيين المتعاونين معها منذ الغزو ممن راهنت على أن يكونوا واجهتها السياسية الداخلية (في مقابل المتعاونين مع إيران).

ولكن، مع علم الإدارة الأمريكية بكل ذلك، لم تبد استعداداً للتجاوب مع مطالب حلفائها في قائمة إياد علاوي والمهادنين لسياستها في “الحزب الإسلامي” وبعض القوى العشائرية، فلم تُجارِهِم فيما ذهبوا إليه من وجوب إلغاء نتائج الانتخابات جملة وإعادتها من جديد، وإنما اكتفت بنصحهم بتقديم الطعون إلى الجهة عينها التي طعنوا في نزاهتها وحيادها (المفوضية العليا) وبالإيعاز إلى أمين عام الأمم المتحدة بإرسال لجنة (من عدد يقل عن عدد أصابع اليد من الأفراد) للتحقق من نتائج الاقتراع والفرز ومن وجاهة الطعون الجزئية المقدمة من المعارضة المشاركة في الاقتراع. وكان واضحاً تماماً أن إدارة بوش ليست راغبة في التشكيك في صدقية عملية الانتخابات، أو إيصال المسألة إلى حدود إعادة إجرائها من جديد، وهو على الأرجح ما لم تتوقعه القوائم المعارضة لقائمة “الائتلاف العراقي الموحد” المدعوم من طهران، حين انبرت للطعن في شرعيتها بُعَيْد إعلان النتائج الجزئية.

الأدهى من ذلك أن الإدارة الأمريكية ما اكتفت بخذلان حلفائها غير الموالين لإيران وعدم مجاراتهم في المطالبة بإعادة النظر في شرعية الانتخابات على نحو ما أرادوا وأملوا وإنما أغرتهم بمشاركة “متوازنة” في الحكومة المقبلة “المنبثقة” من الانتخابات، مستعينة بوساطة القيادات الكردية المتعاونة معها لإقناعهم بالمشاركة في حكومة “وحدة وطنية” (ولا يبدو استطراداً أن جماعات علاوي و”الحزب الإسلامي” و”مؤتمر أهل العراق” والقوى العشائرية تُمانع في تلك المشاركة وبلع اعتراضاتها إن حصلت على حصة تحفظ ماء الوجه!).

والحق أن المرء لا يحتاج إلى كبير ذكاء ليدرك الأسباب الحاملة إدارة بوش على غض الطرف عن فضيحة التزوير التي طفحت وقائعها. ويمكن، من باب التمثيل فقط، الإشارة إلى اثنين منها رئيسيين:

أولهما: أن الطعن في شرعية الانتخابات من قبل إدارة بوش، والدعوة إلى إعادة إجرائها، سينسف الذريعة الوحيدة التي تبقت لدى هذه الإدارة في مواجهة معارضتها الداخلية للحرب في العراق، وهي (الذريعة نعني): بناء عملية سياسية تقود إلى قيام نظام “ديمقراطي” في العراق. فحين تُلغى الانتخابات، لا يكون من معنى لذلك سوى أن هذه الإدارة فشلت في كسب الحرب سياسياً ولم تستطع أن تحرز نجاحاً في تنمية شروط تقدم “العملية السياسية” في البلد. الأمر الذي يضيف إلى رصيد الخسارات عند بوش (الخسارات العسكرية والبشرية والمالية والمعنوية) خسارة سياسية لا يستطيع أن يتحملها شخصياً، ولا أن يتحملها حزبه على مسافة أشهر من انتخابات الكونجرس، وفي مناخ من النقد الحاد لسياسته في العراق من طرف المعارضة “الديمقراطية” والأعم الأغلب من الرأي العام على ما تنطق بذلك نتائج استطلاعات الرأي في أمريكا.

وثانيهما: أن إعادة الانتخابات ستدخل الإدارة الأمريكية وقواتها المحتلة في متاهات عديدة قد تربك كثيراً من الحسابات الدقيقة التي وضعتها منذ أطلقت ما أسمته ب “العملية السياسية” في العراق قبل عام، وفي قلب تلك الحسابات ألا تتصادم مع النفوذ الإيراني، وأدواته المحلية في العراق، وألا تصطدم بأوضاع سياسية تؤخر بداية سحب قواتها المحتلة، ومن النافل القول إن إعادة الانتخابات ستواجه بممانعة إيرانية قد تصل إلى إثارة مشكلات أمنية لقوات الاحتلال في المناطق العراقية التي تنعم فيها بالراحة، وستواجه باعتراض حلفاء أمريكا الموالين لإيران والمستفيدين من نتائج “الانتخابات”. والأهم من ذلك إن إعادتها ستؤثر على أُزْعُومَة الإدارة الأمريكية بأن العراق يشهد تطوراً “ديمقراطياً” سيُرْجئ تنفيذ قرار السحب التدريجي للقوات، الأمر الذي سينجم عنه المزيد من استنزاف تلك القوات في عمليات المقاومة. ويخطئ من يعتقد أن إدارة بوش معنيّة بقيام “عملية سياسية” أو حياة “ديمقراطية” في العراق حتى تهب لتصحيح فضيحة التزوير. ما يعنيها فقط وفقط أن تقول إنها أنجزت مهمة سياسية، وأن العراقيين باتوا قادرين على إدارة أمورهم، لتبرر أن خروجها من العراق ليس هرباً من جحيم المقاومة، بل ثمرة “نجاح” سياسي في تكريس “الاستقرار” في البلد! وما أغنانا عن القول إن مصلحة العراق الوطنية (هي) في انسحاب قوات الاحتلال منه وليس في تصحيح انتخابات مزورة ولا في إجراء انتخابات في ظل الاحتلال حتى وإن كانت نزيهة.