يعتقل أشخاص في سوريا، فيبادر معارضون ونشطاء حقوق إنسان إلى التنديد باعتقالهم، وقد يدينون <<النظام الأمني>>، ويؤكدون أن هؤلاء المعتقلين ليسوا خطرا على البلاد، دون أن يكون واضحا معيار التمييز بين ما هو خطر وما هو ليس كذلك.

وفي عام 2005 اضطرت القوات السورية للانسحاب من لبنان، وتعرض النظام لضغوط هائلة، وشعرت أكثرية السوريين بخطر الوضع في البلاد وحولها، لكن دون أن يساءل أحد ودون أن يقدم أحد كشف حساب عن تعريض أمن البلاد للخطر ودون أن يكون لدى أحد مفهوم واضح لأمن البلاد أصلا. وقبله في عام 2004 ضربت إسرائيل في دمشق أو حولها، ولم تدفع الضربات إلى نقاش حول استراتيجية سوريا في معالجة الخطر الإسرائيلي في ظل فشل استراتيجية السلام وصعوبة المواجهة العسكرية.

ترى، ما صفات الشيء الذي يعتبر خطرا على البلاد؟ ما هو الشيء الآمن بالمقابل؟ كيف يصان أمن سوريا؟ من هو الصديق ومن هو العدو؟ ما هي الأهداف الوطنية الكبرى التي يعتبر المساس بها خطرا على الأمن الوطني السوري؟ ما هي العلاقة بين أمن سوريا و<<الأمن القومي العربي>>؟ بين أمن سوريا وأمن نظام حكمها؟ هذه الأسئلة وأشباهها هي ما يفترض أن تجيب عنها العقيدة الأمنية السورية. وسنقول في هذا المقال إن هذه العقيدة غير موجودة، وان عدم وجودها بحد ذاته خطر على البلاد وأمنها. على أننا سنحاول تقصي نظام الغياب هذا أو منطقه، في محاولة لتجاوز منطق الإدانة والهجاء السياسي من جهة، وتوسيع الاهتمام الفكري بقضايا غائبة تماما عن أفق اهتمام الديمقراطيين السوريين من جهة ثانية.

قبل بعض الوقت نشرت جريدة <<السفير>> ملفاً أعده منذر مصري، وسأل فيه 13 مثقفاً وناشطاً سورياً: من أين يأتي الخطر على سوريا اليوم (<<السفير>>، 11/11/2005)؟ تفاوتت أجوبة المثقفين والناشطين، لكن لم يكن واضحا تعريفهم للخطر، ولا معاييرهم في تصنيف الأخطار، ولا كذلك تصورهم عن الكائن المعرض للخطر: سوريا. قال بعضنا إن الخطر الأول هو النظام، وقالت قلة إنه الخطر الخارجي، ومزج أكثرنا بينهما، وقالت قلة أخرى إنها تركيبة المجتمع السوري المعرضة للتنازع الأهلي. على مألوف السوريين قدم المشاركون أفكارا نبيهة، لكن دون إعمال فكر ودون هدوء في النبرة ودون ما يشير إلى تركيب فكري (كاتب هذه السطور كان بين المساهمين). تقديراتنا حدسية أو إيديولوجية، تتصل بمواقعنا وتفضيلاتنا، لا يسندها مبحث مستقر المقدمات والمفاهيم والإشكاليات ولا شعور بالأمن يحرر من اندفاعات الشعور.

مفارقة النظام الأمني

ترتسم على الفور مفارقة: يبدو النظام السياسي في سوريا متمركزا حول الوظيفة الأمنية، ويقال إن <<الأمن>> هو <<كل شيء>> في البلد، فكيف تأتى أنه ليس هناك مفهوم واضح للأمن الوطني السوري؟ يصدر رصد المفارقة هذه عن افتراض أن البعدين الجهازي والفكري للوظيفة الأمنية متساوقان حتما، وان مزيدا من الأجهزة الأمنية يعني مزيدا من الفكر الأمني والوعي الأمني. والحال ليس هذا ضروريا وليس هو الواقع. ونميل إلى الاعتقاد بأن غياب مفهوم محدد للأمن الوطني ليس عيبا في عين المسؤولين عن الوظيفة الأمنية في سوريا بل هو عنصر أساسي في مفهومهم للأمن. فمن شأن وضوح العقيدة الأمنية، أي تعريف واضح ومتسق للأخطار والأعداء والأهداف الأمنية التي تسعى إليها المنظومة الأمنية (مركب الأجهزة والعقيدة والممارسات والوظيفة الأمنية)، أن يمنح المواطنين السوريين قدرة على التنبؤ بسلوك الفاعلين الأمنيين ومعرفة للخطوط الحمر التي يحسن تجنبها ومساحة الأمان السلوكية والفكرية والعملية التي يتمتعون بها في أنشطتهم، أي بالمجمل شعور بالأمن. وهذا نقيض ما تصبو إليه فلسفة الأمن السورية التي تربط بين مردودها من الأمن وبين منع كل أنواع الخصوم، الداخليين بالخصوص، من توقع سلوكها. قد نذكر أن السيد رفعت الأسد ألح في مؤتمر حزب البعث عام 1979 على ما دعاه <<سرية العقل الأمني>> كي لا تعرف ثغراته ولضمان استحالة التنبؤ بسلوكه، وذلك على أعتاب أزمة اجتماعية ووطنية خطرة سجلت قفزة في المكون الأمني للنظام، ومحت الفارق بين أمن البلد وأمن النظام. ورغم أن السيد رفعت هزم بعد خمس سنوات تأسيسية وطوال من اقتراحه ذاك، فإن برنامجه هو الذي طبق كما يحصل كثيرا في الثورات والانقلابات العنيفة. بل آل نظام الحكم إلى أن يكون المنظمة الأشد سرية في البلاد (وعنفا وتطرفا وفئوية، لكن هذا بحث آخر).

نريد من ذلك أن نقول إن غموض مفهوم الأمن، وليس وضوحه، عنصر مكون للمنظومة الأمنية السورية.

هذا واقع غريب لكنه يلقي ضوءا مهما على تكوين وبنية الدولة. وهو يشير، في تقديرنا، إلى تغلب الوجه الجهازي للدولة على وجهها الأخلاقي أو الإدلوجي، إن استخدمنا لغة عبد الله العروي، وكذلك إلى تفوق الوجه التسييري على الوجه التاريخي في بنيانها.

وكما ألمحنا فوق، لم يبد المثقفون والديمقراطيون السوريون اهتماما بقضايا الأمن. لقد اكتفينا على العموم بالتنديد بالتجاوزات الأمنية، وبانتهاكات أجهزة الأمن لحقوق الإنسان، وبكشف مسؤولية أجهزة الأمن عن لا أمن المواطنين وتعدياتها على حقوقهم وحرماتهم. ولم نقترح مفهوما متسقا للأمن الوطني، أو نعمل على إعادة بناء الوظيفة الأمنية والأجهزة الأمنية حول هذا المفهوم. هذا العمل مهم بحد ذاته، لكنه ايضا مفيد عمليا للحد من إساءة استخدام السلطة الأمنية والحجج الأمنية. أسباب ذلك مفهومة: النجاة من <<الأمن>> مقدمة على تفكيره أو التفكير فيه. والنظرية الأمنية، إن استخدمنا تعبيرا مفخما، لا تنبع من المعاناة من أجهزة الأمن، بل هي تقتضي تراجع المعاناة شرطا لها. الخائف يفكر في أمنه كشعور لا كمفهوم، وبالتأكيد لا يفكر في أمن بلاده أو الأمن بصورة عامة.

بالاهتمام بقضايا الأمن نريد أن نقول إن أمن سوريا والأمن في سوريا أهم من أن يترك لأجهزة الأمن ورجال الأمن، أهم أيضا من ان يترك لمنطق الإدانة أو التحريض الذي ينجر له معارضو <<الأنظمة الأمنية>> تلقائياً. لدى الأولين، كما سنرى، مفهوم ضيق للأمن الوطني يطابقه مع أمن نظام الحكم، ما يعني أن أمن البلاد بخير ما دام نظام الحكم مستقرا. هذا أيضا بحد ذاته خطير على أمن البلاد. لذلك ندعو منذ الآن إلى نزع تسييس المنظومة الأمنية، وفي الوقت نفسه إخضاعها للسياسيين من رجال الدولة، وهو ما يقتضي بدروه أن يكون هؤلاء السياسيون منتخبون. ويوحي الأخيرون بأن الأمن شر بحد ذاته، الأمر الذي يجد ترجمته السياسية إن تسنى لهم الوصول إلى السلطة في السير على منطق الممارسة الأمنية التي نقموا عليها دون أن يحيدوا عنها قيد أنملة. بالتفكير في الشأن الأمني نحاول توفير المفاجآت السيئة على أنفسنا، بعد انقضاء <<دولة>> الأمن.

لكن هل صحيح أنه ليس لدينا في سوريا عقيدة أمنية؟ الواقع أن لدينا عقيدتين بدلاً من واحدة. ولذلك ليس لدينا عقيدة أمنية وطنية. هناك مفهوم قديم للأمن القومي العربي. وهناك مفهوم نستخلصه من الممارسة يرد الأمن الوطني إلى أمن النظام الحاكم.

مفهوم الأمن القومي العربي

تكون مفهوم الأمن القومي العربي في مرحلة صعود الفكرة القومية العربية في الخمسينيات، ووضع تصورا طموحا وامبراطوريا للأمن العربي، فنظر إلى المحيط نظرة تتراوح بين الارتياب والعدائية بوصفه مصدر أخطار أمنية، وافترض توجها عربيا ثابتا نحو الوحدة أو على الأقل التضامن الفعال، واعتبر إسرائيل خطرا وجوديا. هذا المفهوم يعطي فكرة مبالغا فيها عن قوة العرب، وثقة مبالغا فيها أيضا بأن الزمن حليفهم، وأن المستقبل سيحمل لهم الوحدة والقوة. إنه مفهوم مناسب لكتلة أقوى مما كانه العرب في أي يوم.

أيام الصعود ذاتها لم تتبلور منظومة أمنية فعالة حول هذا المفهوم. اليوم لم يعد مناسبا كلية. الإصرار عليه يقود إما إلى سياسات انتحارية، أو يقوم بدور ضباب إيديولوجي يحجب انتقال السياسة الأمنية إلى التمحور حول حماية النظام ودوام بقائه، وذلك من وراء الوفاء الخطابي للعقيدة القومية.

الممارسة الأمنية السورية لا تستهدي بمفهوم الأمن القومي العربي رغم حرصها على بث الاعتقاد بأنها تفعل ذلك. فقد خضع هذا المفهوم لتحول وظيفي نقله من مجال توجيه سياسة النظام إلى إضفاء الشرعية عليه وتسويغ مطامحه في الخلود. هذا التحول ممكن لأن العروبة عنصر مكون لأية وطنية سورية ممكنة. وتخفي الاستمرارية الخطابية انقطاعا في وظيفة المفهوم ومفرداته وإحالاته، فضلا عن السياسات الفعلية الممارسة تحت اسمه. وقبل أن يكون هذا غشاً فكرياً وإيديولوجياً هو خطر أمني. بالأحرى، هو خطر لأنه غش، لأنه يحجب عن الناس الواقع الحقيقي. فالكذب والتزوير وعدم تسمية الأشياء بأسمائها تقلل من قدرة الناس على التوجه في الواقع وتضعف تحكمهم بمصيرهم وتثير لديهم ردود فعل غير سليمة، وربما غير عقلانية، وتعطل قدرتهم على فهم السياسات التي تستظل بالغش والتزوير والتأثير عليها. فإما أن يتواطؤوا ضد أنفسهم ومصالحهم، أو يستسلموا لواقع لا يستوعبونه ولا يملكون نفاذا إلى خفاياه، أو يتصرفوا بطريقة عنيفة رغبة في جلاء الملتبس وتوضيح الغامض.

على العموم، ندرك في سوريا أن الحرب التي يتحدث عنها الخطاب الأمني السوري، المنحول من الفكرة القومية العربية، ليست حربا، وأنها لازمة خطابية للعقيدة الرسمية، لكننا لا ندرك ان هذا بالغ الخطر لأنه تزوير للواقع وتشويش للمدارك من جهة، ولأنه لعب بالحرب لا بد ان يرتد إلى الداخل من جهة أخرى. وهذا واقع الحال.

فبلاغ الحرب وأجهزة مواجهة الخطر (الأجهزة الأمنية) وتمركز الدولة حول الوظيفة الأمنية، كلها مسؤولة بصورة لا يمكن تخفيفها عن تطبيع القوة والإكراه والعنف في حياة البلاد، كما عن منع السياسة عن أهلها. حين تتحدث كل يوم عن المواجهة والصمود والمجابهة والأعداء، وحين تخضع الحياة الداخلية لمنطق المواجهة المفترضة تلك، وحين لا تتحدث أبدا عن أصدقاء وحلفاء وخصوم وتفاوض وتسويات سياسية في الداخل، فإن الرسالة المضمرة أنه ينبغي أن يكون السوريون كتلة واحدة صماء، وأن أي ابتعاد عنها هو خيانة، وأن الشكل الواحد للاختلاف والخصومة السياسية هو علاقة العداوة، وعلاجها الوحيد هو الإبادة الجسدية أو السياسية. هذا هو مفهوم الوحدة الوطنية البعثي (سنفرد له تناولا مستقلا). وهو لا يترك بابا للتغيير غير مفتوح على العنف.

وهو أيضا خطر بالغ.

وهو بعد مبدأ انقلاب المنظومة الأمنية السورية على نفسها: فإسرائيل، العدو القومي والدولة التي تحتل أرضا سورية، والتي كانت خارج السياسة وداخل الحرب حتى حرب تشرين الأول 1973 غيرت موقعها، وبعد قليل، وبدءا من أوساط السبعينيات، احتل موقع الحرب الاعتراض المحلي المحتمل. ليس تفسير ذلك صعبا. فالمنظومة حربية لا سياسية، وهي تنتج الأعداء وتطلبهم. وحين لا تتعدى إلى هذا العدو لأسباب تخص الإمكانيات تتعدى إلى غيره. إن حربيتها فعل لازم لتكوينها، أما تعديه إلى هذا العدو دون ذاك فيتحدد بقدراتها. لا ننس أن تلك كانت أيام الفشل في الرد على التحدي الإسرائيلي كما تمثل في هزيمة حزيران (نظام ناصر والنظام البعثي انقلبا على سابقيهما لفشلهما في منع نكبة 1948)، وعدم الاعتراف بالفشل في وقت واحد. النظام الذي لا يعترف بالفشل لن يقبل إعادة النظر في بنيانه وشرعيته بل سيكون حساسا وبالغ العنف حيال أي مساءلة له على هذين الصعيدين. هذا ما حصل.

النظم المهزومة ستدفّع شعوبها ثمن الهزيمة دما وكرامة ومستقبلا. منذ ذلك الوقت انقلبت العلاقة بين النظام والأهداف الوطنية. بات النظام هو الهدف وأمست الأهداف عقيدة مشرعة له.

لقد خرجت إسرائيل من الحرب إلى السياسة، لكن دون أن ينال هذا التحول تغطية فكرية وثقافية تستوعبه. بالطبع ليس من مصلحة سوريا خوض مواجهة عسكرية مع عدو أقوى بكثير ومسنود من اقوى أقوياء العالم. حيال هذه الواقعة التي يدركها المسؤولون السوريون جميعا قدمت الهيمنة على لبنان مخرجا جانبيا يتيح في الوقت ذاته الاستمرار في الحرب (بالوكالة) والوفاء لنظرية الأمن القومي مع تجنب المواجهة المباشرة.

أغلق هذا المخرج بعد الانسحاب السوري من لبنان، وإن يكن الحنين إليه لا يزال قويا، وإن يكن الحلم بإعادة فتحه، أو بالأحرى الإمساك بمفاتيحه، يلازم الحكم البعثي. والواقع أن مفهوم حرب الوكالة غير منصف لحزب الله الذي واجه إسرائيل عن إيمان مهتديا بقيم قومية ودينية عادلة حقا. لكننا لا نتحدث عن حزب الله. نتحدث عن نظام الهيمنة السورية.

إلى جانب المخرج اللبناني، ثمة نظرية رفض التطبيع التي لمع نجمها في تسعينيات القرن العشرين حين بدا ان المفاوضات السورية الإسرائيلية قد تثمر اتفاق سلام مع العدو القومي. غير أن رفض التطبيع ليس نظرية كافية لاستيعاب خروج العدو القومي من الحرب إلى السياسة ولا هو سياسة متسقة، بقدر ما هو إعداد النفس لتقبل تسوية سياسية، غير عادلة، مع إنقاذ كرامتها (أي النفس) بمنحها شعورا بمقاومة ثقافية واجتماعية. كان رفض التطبيع حيلة تتيح للنظام الجمع بين تشدد فكري وعقيدي حيال <<الكيان الصهيوني>> ومرونة سياسية ودبلوماسية حيال <<إسرائيل>>.

غير أن هذه الازدواجية ليست نظرية أمنية ولا سياسة أمنية بقدر ما هي بديل زائف منهما وهروب من مقتضياتهما. وأكثر ما يتجسد خطل هذه الازدواجية فيه هو أن أقسى حكم يمكن أن تناله مصافحة الرئيس بشار الأسد مع الرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف في نيسان 2005 هو حكم العقيدة البعثية بالذات ومفهوم الأمن القومي العربي المرتبط بها. كان يمكن للمصافحة تلك ان تكون إشارة رمزية مقبولة في إطار مفهوم أمني مختلف، لكنها في إطار المفهوم المعلن للنظام السوري بالذات لا يمكن تسويغها.

النظام غير قادر على تبرير سلوكه استنادا إلى عقيدته هو. وهذا أمر غير عقلاني يدل على الحاجة إلى تجديد المنظومة الأمنية السورية، مفهوما وأهدافا وممارسة وأجهزة. أما سر هذه اللاعقلانية فبسيط جدا: عقيدة النظام لم تعد موجها لسلوكه كما قلنا. على أن العقلانية تستعاد إذا اعتبرنا أن الهدف الأسمى هو البقاء في السلطة. فالعقيدة تمنح شرعية بقاء، وتفل حسا نقديا عند جمهور وطني الحساسية، لكنه ضعيف سياسيا وفكريا.