يحيل كل حديث إيجابي بشأن <<المقاومة>> وشرعية وجودها في لبنان الى مثال المقاومة الفرنسية إبان سنوات الاحتلال الألماني. واذا ما عدنا الى السياق الفرنسي لهذه المقاومة نجد أن <<الميليشيا>>، دون أي نعت توضيحي إضافي، كانت الاسم الشائع والمرعب والمقيت للتنظيم السياسي والعسكري الذي أنشئ تحت عباءة حكومة فيشي، وبمبادرة من بيار لافال، وبالتعاون مع الغستابو، لاصطياد مناضلي المقاومة الفرنسية أو تسليمهم الى المحتل النازي. جمعت <<الميليشيا>> كوادر من الأوساط الكاثوليكية الملكية المغالية، وكانت تحظى بقاعدة أهلية راسخة، لا سيما في المناطق الرجعية تقليدياً في فرنسا. واذا ما استحضر المثال اللبناني فإن المعادل المحلي لهذه <<الميليشيا>> هو <<جيش لبنان الجنوبي>> لا حزب الله.
اذا ما استحضر السياق الفرنسي لسنوات الاحتلال، تكون <<الميليشيا>> نقيض المقاومة، ولا يعود تعريف الميليشيا سالباً حصراً، على اعتبار أنها ليست بجيش نظامي، اذا ما كان الارهاب يعرّف بالايجاب، على اعتبار أنه تقصد استهداف المدنيين، فإن الجامع المشترك بين كل الميليشيات في التاريخ يعرّف بالسلب، وهو يتعلق بكل الظواهر المسلحة نصف العسكرية التي تتعارض بطريقة جزئية أو كلية مع مبدأ احتكار الدولة للعنف على أرضها.

بيد أن الجامع المشترك ينبغي ألا يحجب حقيقة أن وصف <<الميليشيا>> هو قبل كل شيء حكم قيمة، خصوصاً أن بعض <<الميليشيات>> في التاريخ قد افتخرت بالاسم، من أقصى اليمين (حال <<ميليشيا>> بيار لافال المذكورة آنفاً) الى أقصى اليسار (ميليشيات الشعب أو الشعب المسلح).
ما هي اذاً <<الميليشيات>> بالمعنى الذي دعا فيه القرار 1559 الدولة اللبنانية الى نزع سلاحها؟ ليس ثمة ما يذكر بنموذج ميليشيا بيار لافال، لكن ثمة إحالة مزدوجة، الى خارطة الميليشيات كما يعرفها العالم اليوم، والى مأثور الميليشيات في الحرب الأهلية اللبنانية بالتحديد. ليست الميليشيات كما يعرفها العالم اليوم خاضعة لتقييم دولي موحد، من <<الجنجويد>> الى <<جيش المهدي>> الى <<فيلق بدر>> الى <<القوات المسلحة الثورية الكولومبية>> الى ميليشيات المستوطنين في الضفة الغربية الى الميليشيات الخاصة في بعض الولايات الأميركية. أما الميليشيات في الحرب الأهلية اللبنانية فهي ما نصّ اتفاق الطائف على نزع سلاحها، أي نزع سلاحها ليس فقط لتسليمه الى جيش الدولة اللبنانية وانما أيضاً للمساهمة في عملية بناء جيش الدولة اللبنانية لأن هذا الجيش تحول في أعوام الحرب الأهلية هو الآخر الى مجموعة ميليشيات. اتفاق الطائف أكثر حزماً من القرار 1559 في وجوب حل الميليشيات، لكنه في الوقت نفسه أكثر تعاقدية، لأنه يفيد ما معناه أن جيش دولة ما بعد الحرب هو في المحصلة نتيجة نزع <<المليشة>> عن الألوية العسكرية كما خرجت من تجربة الحرب اللبنانية، ونتيجة تذويب جزء كبير من الميليشيات في جيش الدولة. ولا يمكن لعاقل اعتبار أن هذه العملية تُنجز في سنة واحدة أو سنتين... إلا إن كان اسمه اميل لحّود.

نهضت تجربة اميل لحّود العسكرية في بداية التسعينيات على قاعدة لا تبالي كثيراً بهذه العلاقة التعاقدية بين حل الميليشيات وانبثاق الجيش الشرعي. وكانت المقاومة الاسلامية أكثر من مستفيد من عدم احترام هذه العلاقة التعاقدية، الى أن انقلبت الحال، فزج سلاحها في قرار دولي واحد مع ميليشيات أخرى لبنانية وغير لبنانية. لعلّ المخرج من الأزمة الحالية يكون باعتماد مقولة <<المقاومة ليست ميليشيا فقط>> ومن ثم إحياء هذه العلاقة التعاقدية بين حل الميليشيات وبين انبثاق الجيش الشرعي، لأن سقف القرار 1559 هو أن يكون هناك جيش شرعي يمكنه أن يستوعب حل الميليشيات ويبسط سيادة الدولة، وبالتالي فإن موضوعة <<إرسال الجيش الى الجنوب>> هي نفسها مرتبطة بمعرفة أي جيش يراد بناؤه.