نصر شمالي

يستطيع من يشاء التطلع إلى تشكيل حزب يحظى بالدعم الغربي، الفرانكوفوني/ الأنكلوسكسوني، لكنه يخطئ كثيراً جداً إن اعتقد أن الشعب العربي السوري يرى في دعوته إلى التحالف مع الغرب عرضاً منطقياً جدّياً، لأن هذا الشعب يعرف أن الفرانكوفونيين والأنكلوسكسونيين لا يريدون التحالف معه، بل يريدونه ذليلاً خانعاً، وتابعاً خاضعاً، فليس الشعب العربي السوري ولا الأمة العربية من يرفض التحالف، أو بالأحرى التعامل النزيه مع الغرب، بل الغرب هو من يرفض، ولنا في وقائع التاريخ الماضية والحالية ما يؤكد ذلك، منذ تجربة محمد علي باشا إلى محاولة أحمد عرابي، إلى التجربة الناصرية، إلى المحاولات والتجارب الأخرى في جميع الأقطار العربية حتى يومنا هذا.

إن المتطلعين إلى مثل هذا التحالف المستحيل مع الغرب الفرانكوفوني/ الأنكلوسكسوني يقدّمون اليوم وثائق اعتمادهم ودلائل حسن نيتهم عبر مصطلحات جديدة تمتلئ بها أحاديثهم وخطاباتهم وكتاباتهم، وهي مصطلحات تصف باستخفاف أبناء الأمة المجاهدين على مدى القرن الماضي وحتى يومنا هذا بالقومجيين واليسراوجيين والاسلامجيين، وما إلى ذلك من مصطلحات سخيفة ومعيبة، لكنها في الوقت نفسه إرهابية استئصالية حقاً، وإنه لمن الواضح أنهم لا يريدون نصرة القضايا اليسارية والقومية والإسلامية ضدّ الذين تاجروا بها واستغلوها، بل يريدون التنصل منها وتسفيهها وتحقيرها هي بالذات، وإدانتها وتصفيتها هي بالذات! ولا ندري ماذا يتبقى من الأمة إذا أسقطنا تياراتها الجهادية، الإسلامية والقومية واليسارية، من تاريخها الحديث على مدى قرن! أما هم فيقولون لنا أن ما يتبقى هو اللجوء إلى الليبرالية، ليس الليبرالية الوطنية الخاصة، لأننا لا نمتلكها ولا نمتلك شروط إنتاجها، بل الليبرالية الفرانكوفونية الأنكلوسكسونية، التي ما كان لها أن تظهر وتنهض في المراكز إلا على أنقاض المستعمرات المدمّرة، سواء في مرحلة الاستعمار القديم المباشر أم في مرحلة الاستعمار التالي غير المباشر، الذي عاد اليوم مباشراً في العراق!

يقول الدكتور سمير أمين في حديث نشر مؤخراً: الديمقراطية التي يسعى الأميركيون إلى فرضها علينا هي ديمقراطية شكلية، من دون أي خلفيات اجتماعية، تقوم فقط على حرية قبول قواعد الرأسمالية الغربية، وفي يقيني أن اتباع هذه الطريق لن يؤدي إلا إلى انهيار اجتماعي شامل، خصوصاً أن الشعوب العربية تتساءل: ما نفع هذا النوع من الديمقراطية أصلاً؟! والحال أن ما تسعى إليه أميركا هو ديمقراطية سياسية من دون تقدم اجتماعي (صحيفة الحياة 23/1/2006) وإن هذا الذي يقوله الدكتور أمين هو عين ما تقود إليه أوهام التحالف مع الغرب، الذي لا يعني سوى مبادلة التقدم الاجتماعي من دون ديمقراطية، الذي اعتمدته بعض الأنظمة العربية، بديمقراطية سياسية من دون تقدم اجتماعي كما تريد الولايات المتحدة!

ولأن حضور الماء يبطل التيممّ فإنني أنقل عن الدكتور سمير أمين – عالم السياسة والاقتصاد- ما أراه صواباً ودقيقاً، حيث يقول أن المرحلة التي يجتازها العالم اليوم ليست مرحلة ما بعد الاستعمار، ولا ما بعد الرأسمالية، بل هي في إطار الرأسمالية وفي إطار الاستعمار، حيث الاستقطاب الذي كان موجوداً، ولا يزال موجوداً، على الصعيد العالمي مرتبط بمنطق التراكم الرأسمالي نفسه وبجوهر كينونته، فقد كان هناك مركز وأطراف، أو مركز ومحيط، خلال المرحلة الأولى من ظهور الرأسمالية قبل خمسة قرون من الآن، وسيظل هذا موجوداً طالما أن هناك رأسمالية وتراكماً رأسمالياً (المرجع نفسه).

وهكذا فإن الدعوة إلى التحالف مع الغرب تصبح بلا أساس في عالم تحكمه وضعية المركز والمحيط، حيث التراكم في المركز يتحقق على حساب المحيط، وحيث ينعدم التكافؤ كأساس للتحالف الذي لا يقوم إلا بين أنداد، فإذا أخذنا بالاعتبار أن المركز يقتصر على خمس سكان العالم تقريباً ويستأثر بأكثر من أربعة أخماس الإنتاج والاستهلاك العالمي، وإذا أخذنا بالاعتبار أيضاً أن المركز يتجه نحو مزيد من تقليص دائرة الخمس الذهبي، ونحو تفكيك المحيط البائس وتفتيته إلى أكثر من خمسة آلاف دويلة، كي لا تقوم لإرادته وفعاليته قائمة، أدركنا من جهة عقم القول بهكذا تحالف ليبرالي مع الغرب، ولاحظنا مدى خطورته، وأدركنا بالمقابل كم تصبح البرامج اليسارية والقومية والإسلامية المنطقية غير قابلة للاستخفاف والتحقير والاستئصال، بل إن اعتماد هذه البرامج يبدو الآن أعظم ضرورة وجدوى من أي زمن مضى، ودليلنا على ذلك ميادين المقاومة المقتدرة المتطورة، التي تتصدى بجدارة للجبروت الرأسمالي، وتلحق الهزائم بأشدّ أسلحته فتكاً وتدميراً.

في الحقيقة، هناك من يريد إقناعنا بالاستسلام كطريق وحيدة للخلاص، فيلحّ على مدار الساعة مؤكداً عجزنا ودونيتنا، مستخفاً بإمكانياتنا المادية والبشرية، بينما أمتنا لا تعاني نقصاً ولا عجزاً ولا إحساساً بالدونية، فهي أمة لا تفتقد العزيمة والإرادة، لكنها تعاني من التضليل والتعتيم، ولا تفتقد روح التضحية والإقدام، إنما يحال بينها وبين ميادين التضحية والإقدام، ولا تنقصها القوى اللازمة لإحراز التقدم، لكن قواها تبعثرها الجهالات والخيانات!

إننا نعرف جيداً أن إحراز التقدم المادي مرهون بتوفر الشرط السياسي الصحيح، وأن قضيتنا محض سياسية، حيث من الممكن تلافي التقصير في ميادين التقدم المادي بسرعة قياسية عبر انتصار سياسي قومي كبير يحقق للأمة حضورها الطبيعي الحرّ على مسرح الحياة الدولية، وهو ما سوف يحدث بالتأكيد.