لم تكن حركة المقاومة الاسلامية في فلسطين «حماس» تحتاج الى صناديق الاقتراع لتثبت للجميع أنها الحزب الأكثر شعبية في فلسطين، وسورية وقيادتها السياسية،
وخالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة، قالها بصريح العبارة : «كانوا يلومون دمشق على وجود قادة وكوادر حركة «حماس»، لكن نتائج الانتخابات أثبتت أن «دمشق كانت تدعم التيار الأكثر شعبية».

كذلك فإن القيادة السورية دعمت «حزب الله» اللبناني وما زالت تحتفظ معه بعلاقات تحالفية، كما ترتبط بعلاقة مماثلة مع حركة «أمل» اللبنانية المستمدة شرعيتها من تمثيلها لجزء من الطائفة الشيعية في لبنان مثل «حزب الله» تماما, وايضا لدمشق وقيادتها علاقات طيبة من الكثير من التنظيمات الاسلامية في الوطن العربي، لعل في مقدمهم «الاخوان المسلمين» في الأردن، اضافة الى شخصيات اسلامية عربية مرموقة مثل الشيخ يوسف القرضاوي وغيره, ولا ننسى هنا علاقاتها مع كثير من الطيف «الاسلامي» في العراق بكل تنوعاته الطائفية سواء أكان سنيا أم شيعيا.
بكل تأكيد تدرك دمشق جيدا أهمية الحفاظ على علاقة وثيقة مع تيار الاسلام السياسي الموجود في كل الوطن العربي، والذي بات منذ اعوام طوال جزءا من المشهد السياسي الشعبي ولاحقا الرسمي المعبر عنه من خلال مؤسسات سياسية، بعد جملة «الانتصارات» التي حققتها بعض التنظيمات من خلال «اللعبة الديموقراطية»، وان كانت محدودة وشكلية، كما حصل في مصر والأردن في وقت سابق.

دمشق كانت وما زالت تدرك أن هؤلاء «الاسلاميين» هم رصيدها الشعبي المخبأ والكامن الذي ستعتمد عليه، فيما لو حصل أي تهديد مباشر ضدها من قبل الولايات المتحدة في ظل عدم قدرة النظام العربي الرسمي على فعل شيء ذي قيمة من شأنه تخفيف تلك الضغوط ومنعها.
«الاسلاميون» يطوقون سورية، هم موجودون في تركيا ويحكمونها من خلال حزب العدالة والتنمية، حتى لو كانوا معتدلين، وهم على حدودها الشرقية في العراق يحكمونه، وهم من يملكون الشرعية «الانتخابية» والسلاح أيضا، وهم على حدودها الجنوبية في الأردن وموجودون في البرلمان، وهم في لبنان من خلال حليفيها «حزب الله» وحركة «أمل»، وفي فلسطين أصبحوا في قلب السلطة ومركز القرار، وهم في ايران الحليف والصديق منذ أكثر من عقدين، وهم أخيرا في مصر ويحققون صعودا لافتا.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا وبإلحاح هو: الى متى ستبقى سورية خارج هذه التأثيرات، والى متى ستستطيع سد بواباتها ونوافذها أمام تأثيرات الرياح المقبلة من الجهات كلها من حولها؟
بكل تأكيد هناك خشية كبيرة و«جرح غائر» في النفوس تسببت به الصراعات المسلحة والدموية على السلطة بين النظام في دمشق وبين الاخوان المسلمين السوريين، لكن ذلك وأمام المتغيرات الحاصلة في المنطقة، فقد آن لدمشق أن تجد صيغة حل سياسي واجتماعي لما حصل، اذ لم تعد تنفع المعالجات الأمنية.

ثم، من ناحية ثانية، واذا ما كانت هناك مخاوف لدى النظام السوري أو من لدى قوى دولية من «الاخوان» أو من تيارات الاسلام السياسي الأخرى، فهذه مخاوف مبالغ بها، لأن سورية مختلفة عن كل من حولها لأسباب عدة، أولها أن هناك تكسّرا طائفيا واثنيا يمنع الاسلاميين من تحقيق نصر حاسم في أي انتخابات ديموقراطية نزيهة، فالكل يعرف كم هي اللوحة السورية الاجتماعية والطائفية والاثنية معقدة وغنية بتلاوينها السياسية.

من ناحية أخرى، صحيح أن هناك «اسلاميين» في سورية، لكنهم ومنذ عام 1981 وبسبب منعهم من العمل السياسي وملاحقتهم المستمرة، أصبحوا مجرد اسلاميين يهمهم ممارسة عبادتهم اليومية بعيدا عن السياسة، لا بل أن هؤلاء قريبون جدا من توجهات النظام السياسية وخصوصا لناحية موقفه من اسرائيل والولايات المتحدة، وما يجري في العراق, بمعنى من المعاني، هم اسلاميون لن يختلفوا كثيرا عن اسلاميي «حماس» و«حزب الله» وغيرهما، لأنهم يعيشون الهواجس والقناعات ذاتها بفعل المتغيرات في السياسة الدولية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 وحتى اليوم ، وبالتالي هم لا يملكون أجندة خاصة ضد النظام في سورية, هذا لا يعني أنهم راضون عن الأداء الحكومي، ولا يعني أنهم راضون عن الفساد المعشش في مؤسسات الدولة السورية، ولا يعني أنهم راضون عن «الاصلاح والتحديث» البطيء ، لا بل ربما المتوقف منذ زمن, لكن رغم ذلك فهم يشتركون في ذلك ، أي في حال عدم الرضا، مع الكثير من السوريين، وهم ايضا جزء من المشهد الشعبي العربي العام الناقم على هذه الأوضاع كلها.

أمام ما يجري من متغيرات تاريخية في المنطقة العربية، والتي عكستها اخيرا النتائج الحاسمة في الانتخابات البرلمانية التي حققتها «حماس» لا يمكن لدمشق ونظامها البعثي و«الجبهوي التقدمي» أن تبقى بمعزل عن هذه التأثيرات، ولا يمكن حجبها، ولا يمكن اغلاق الأبواب والنوافذ السورية أمامها, لذلك، لا بد من رؤية بعيدة واستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار دخول هذه الرياح بكل هدوء وأناقة، كي لا تحطم زجاجنا الرقيق.
فمثلما لا يمكن منع الماء من التسرب من بين الاصابع، لا يمكن منع السوريين عن التأثر بما يحصل حولهم ، ومن يحاول ذلك لا يعي قوانين الطبيعة والسياسة والتاريخ والمجتمع وثورة الاتصالات.