في المرة الأولى كان الخطأ ايديولوجياً وشعبوياً، من دون أن يُخفي النفاق أو يستبعده. فقد قيل إن الانتخابات هي الديموقراطية بعينها في معزل عن ثقافتها واقتصادها وكل شيء آخر.

وهذا الذي قالته الولايات المتحدة على مدى عهدها البوشي تبنّاه الجميع، إما لأنهم موالون لأميركا ولكل ما تقول، وإما لأنهم كارهون لها، واثقون من إمكان هزيمتها عبر انتخابات قُدّمت صنواً للديموقراطية.

في المرة الثانية كان الخطأ من طبيعة نفاقيّة، من دون أن يلغي النوازع الايديولوجية والشعبوية أو يستبعدها. فحين أجرت ادارة الرئيس محمود عباس انتخابات شهد العالم بأسره لنزاهتها، وحين حققت «حماس» فوزها المبين، بدأت التهديدات تتتالى للشعب الفلسطيني عقاباً له على ما اختاره.

وكان يمكن، مثلاً، الكلام على مسؤولية الشعب عن خياره، والاشارة الى أن شعباً كالشعب الفلسطيني خصوصاً، هو المعتمد في أبسط مقوّمات حياته على الخارج، آخر من يملك ترف إهمال هذا الخارج عند التفكير في الداخل. وكان يمكن، ايضاً، التذكير بما حصل في النمسا حين قررت التصويت لحزب فاشي فلم يحل ذلك دون معاقبتها.

بيد أن هذا كله يفقد مصداقيته، أو الكثير منها، حين يطغى ذاك الالتباس العظيم بين الديموقراطية والانتخابات، بل حين يغدو التباس كهذا أساساً لوعي ايديولوجي يُراد نشره كونياً. فبالقياس الى الخطأ المؤسّس، لا يعود ثمة معنى للأخطاء الفرعية الناجمة عنه والمترتّبة عليه.

وقصارى القول ان السياسة الاميركية، وقد حصدت الهزيمة التي تأتّت عن نظريتها في الديموقراطية، آثرت الرد الذي ينطوي على احتمال هزيمة ثانية. ذاك ان «النهج» الجديد اذا ما كُتب له الاستمرار، سيكون المسؤول الأخلاقي عن تجويع الشعب الفلسطيني. ولسوف يكون هو نفسه المسؤول عن فوضى لن يكون أحد، لا في فلسطين ولا في اسرائيل ولا في باقي المنطقة، بمنجاة منها. وربما جاز أن نضيف، وقد بات «النهج» المذكور أوروبياً ايضاً، مسؤوليات أخرى لا تقل جسامة.

فاقتصادياً، ستكون النتيجة نسيان كل المساعدات والتقديمات، الأميركي منها والأوروبي، التي استُثمرت منذ سنوات في فلسطين، واعتبارها من صنف المال التالف.

واستراتيجياً، ستتسع الهوّة التي تدخل منها ايران ومن يماشيها الى فلسطين. وهذا، مصحوباً بالفوضى القائمة الآن، يصنع من العجائب ما لا يسع أحداً احتماله.

وثقافياً، سيتعاظم العداء لا للولايات المتحدة وحدها، بل ايضاً لأوروبا الغربية، ومن ثم لسائر رموز «الغرب» والحداثة.

وقد يقال بحق ان الكثير من القوانين يحول دون توجيه المعونات الى أطراف يصفها المُعينون بالارهاب. الا ان هذا قابل للتذليل اذا ما توافرت الرغبة بحيث تُقام قنوات موازية وخلفية تتولى المهمة، كالأمم المتحدة أو منظمات المجتمع المدني أو غير ذلك. ويزيد في فرص التذليل ان تبادر «حماس» الى تشكيل حكومة تضم قوى وأفراداً غير حماسيين وغير موصومين تالياً بالارهاب، يستطيعون تلقّي المساعدات تلك.

وأغلب الظن، ومن دون أية مبالغة في التعويل على «براغماتية حماس»، تبقى طريقة كهذه أجدى من المقاطعة والعزل في نقل التنظيم الأصولي الفلسطيني إلى الاعتراف باسرائيل ونبذ العنف، كائنةً ما كانت درجة النسبية التي تحملها المقارنة.

والكارثة، في آخر المطاف، لا يكون الرد عليها بكارثة أخرى.