كان المستشار الرئاسي الفرنسي موريس غوردولت مونتان يزور واشنطن تقريباً كل خمسة أو ستة أسابيع ليلتقي نظيره الأميركي ستيفين هادلي. وكان هذان المسؤلان يقضيان ساعات طويلة في تنسيق الاستراتيجيات حول إيران وسوريا ولبنان وغيرها من البقع التي تغلي بالأحداث وبعدها يعود المستشار الفرنسي إلى بلده.

وكانا يتحادثان على الهاتف في الفترات الفاصلة بين اللقاءات، خاصة أيام الثلاثاء والخميس.

وعلى الرغم من أن تلك الاتصالات لم تكن مكشوفة تقريباً للعالم الخارجي إلا أنها برزت وبشكل متزايد كعنصر هام في مخططات الولايات المتحدة.

قد تبدو فرنسا على الصعيد الشعبي مجرد مادة لإطلاق النكات في الأوساط الأمريكية السياسية ولكن من خلال هذه الاتصالات الدبلوماسية السرية، أضحى قصر الاليزيه الفرنسي أحد أقوى حلفاء البيت الأبيض.

خلال الزيارة التي قمت بها هذا الأسبوع إلى باريس سنحت لي الفرصة بالتقاء بعض المصادر الفرنسية المطلعة على بعض التفاصيل السرية.

وكانت قصة حول السراديب الخفية والمهمات السرية، ولكنها تقدم توضيحاً حول التغيير الكبير الحاصل في النهج الأمريكي: فأمريكا بعد غرقها في المستنقع العراقي تعمل اليوم بكل طاقتها توجيه سياساتها الخارجية نحو الترادف مع حلفائها في العالم من خلال الأمم المتحدة.

وكانت فرنسا هي وسيط أمريكا الرئيسي في العثور على إجماع عالمي في الرأي.

ربما ذهبت السيناتور هيلاري كلينتون بعيداً في نظرتها السياسية عندما اتهمت في الشهر الماضي الإدارة الأمريكية "بتسريب" سياستها حول إيران لفرنسا وغيرها من الدول الأوربية، ولكنها لم تكن مخطئة تماماً. فتلك الإدارة التي لقيت الكثير من اللوم خلال فترتها الأولى لاتخاذها سياسات أحادية الجانب، قررت في الواقع التقرب من حلفائها والعمل معهم.

ان تأثر الاتصال مع فرنسا كان واضحاً من خلال أمثلة عدة: لنبدأ أولاً بالزيارة السرية التي قام بها غوردولت موناتان إلى دمشق في تشرين الثاني 2003 لرؤية الرئيس السوري بشار الأسد.

في ذلك الوقت كانت العلاقات الأمريكية الفرنسية ما تزال تعيش جموداً كبيراً وذلك بسبب رفض شيراك لدعم الغزو الأمريكي للعراق، ولكن الفرنسيين كانوا يقومون ببعض السيطرة المؤذية. غوردولت موناتان حمل للرئيس الأسد رسالة من شيراك واثنين من القادة المعارضين للحرب على العراق وهم المستشار الألماني جيرهارد شرويدر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وكانت الرسالة المبعوثة إلى الأسد تتضمن ما يلي: لقد غيّرت الحرب الأمور في الشرق الأوسط وعليك أن تظهر بأنك تغيرت أيضاً،- من خلال زيارة إلى القدس أو اتخاذ خطوات أكثر جرأة لإقامة سلام مع إسرائيل. ربما كان الفرنسيون يتمنون الحصول على بعض من النفوذ الدبلوماسي مع واشنطن من خلال لعب دور وسيط السلام، ولكن الأسد لم يرى الأمر كذلك.

عندها وجه الأسد سؤالاً إلى غوردولت موناتان " هل أنت ناطق باسم الأمريكيين؟"

إن الشعور بالقلق إزاء كون كل من فرنسا، ألمانيا، وروسيا إلى جانب الولايات المتحدة في حملتها الضاغطة، دفع الأسد إلى المحاولة مباشرة لتوطيد سيطرته على لبنان.

لذا أجبرهم على إعادة انتخاب الرئيس اللبناني المطواع المؤيد لسوريا، اميل لحود، وبدأ يضيق الخناق على خصم سوريا اللدود، رئيس الوزراء رفيق الحريري. وبلغت العملية ذروتها عند اغتيال الحريري في شباط 2005.

وبدأ غوردولت موناتان القيام بزياراته السرية إلى واشنطن في أب 2004 وذلك لتنسيق الجهود الأمريكية الفرنسية المبذولة لإصدار قرار مجلس الأمن في الأمم المتحدة رقم 1559، الذي يدعو لانسحاب سوريا من الأراضي اللبنانية.

كان ذلك في غمرة الحملة الرئاسية، وكان واضحاً أن الفرنسيون يحاولون حماية أنفسهم من خسارة المراهنات بمراهنات معاكسة.

بعد اغتيال الحريري تعاونت كل من باريس وواشنطن على إرغام سوريا على الانسحاب من لبنان وفق القرار 1559. ومن أجل إخماد الأذى الناجم عن ميليشيات حزب الله الشيعية، اخبر غوردولت موناتان الإيرانيين خلال زيارته السرية إلى طهران في شباط 2005، أن ينصحوا حزب الله العمل على تهدئة الأوضاع.

لعب الأمريكيون والفرنسيون في إطار صياغتهم السياسية حول سوريا وإيران وبشكل متعمد سياسة الشرطي الجيد والشرطي السيئ. فقد طالب الأمريكيون من جهتهم الأمم المتحدة باستخدام لهجة قاسية، أما الفرنسيون فقد أشركوا الروس والصينيين في المسألة كي يحصلوا على نسخة دبلوماسية أقل قسوة.

لقد كانت رقصة دبلوماسية كلاسيكية، ولكنها أثمرت عن قرارات أكثر شدة وقسوة مما لو سار كل جانب لوحده. وتوضيحاً لذلك جاءت التسوية التي حدثت هذا الأسبوع لتحويل إيران إلى مجلس الأمن وذلك نظراً لخرقها المعاهدات النووية، ولكن أيضاً لمنح إيران شهراً آخر للاذعان قبل تقديم أي توصيات رسمية.

يقول الفرنسيون بأنه من الهام جداً في هذه الأوقات الحفاظ على تضامن دولي بشأن إيران حتى لو كان الثمن تأخير بسيط. ومن المثير للاهتمام أن إدارة بوش تبدو موافقة على ذلك.

وأريد أن أقول بأنه حتى هادلي وغوردولت مونتان يشبهان بعضهما البعض، فكلاهما نحيل، أنيق المظهر، ومستشار لامع.

لا تزال فرنسا و واشنطن تختلفان في الرأي حول العديد من القضايا بشكل حاد ولكن يبدو أنهما استنتجتا بأنهما ستكسبان أكثر لو تعاونتا مما لو تخاصمتا. وفعلياً، استفادت تلك الشراكة الهادئة من حقيقة اعتقاد العالم بان فرنسا وأمريكا أعداء.