أيّ صفةٍ يمكن اطلاقها على واقع الحال الراهن في المنطقة العربية؟
انقسام,,, عجز,,, جمود,,, أم تخاذل؟
ربّما تصحّ كلّ واحدة من هذه الصفات، لكن الأكثر تعبيراً منها عن واقع حال أمّة العرب هي أنَّها أمَّة مستباحة.
فما يحدث على أرضها هو حال الاستباحة بكلّ معانيها وصورها.
وطالما أن الانقلابات العسكرية الداخلية من أجل تغيير الحكومات، هي سياسة مرفوضة الآن في العالم ككلّ، فأيُّ نظامٍ ديموقراطي هذا يمكن أن يستتبَّ حصيلة فوضى حروب أهلية أو عدوانٍ عسكريٍّ خارجي؟
لو لم تستبِح جيوش دول عربية سلطات أوطانها أولاً، ثمَّ حقوق دولٍ عربيةٍ أخرى، ولو لم تستبِح حكومات عربية حقوق مواطنيها، هل كانت الأمَّة العربية لتصل الى هذا الحدِّ من الضعف والعجز والانقسام والاستباحة من الخارج؟
أن يكون العرب الآن أمَّة مستباحة لحينٍ من الزمن، فهذا مردّه لضعفٍ وعطبٍِ في الداخل، ولجبروت الخارج, لكن عدم علاج الضعف واصلاح العطب هو الذي يسمح للخارج بالتدخل والهيمنة واشعال الفتن الداخلية.
انَّ الأمَّة الواحدة ذات الثقافة الواحدة والمصير المشترك، تتصارع في داخلها الآن قوى وجماعات وكيانات، وتتهجّر من أرضها كفاءات وعقول وخيرات، وتتعمّق في مجتمعها الواحد دعوات لمزيد من الانقسامات على أسسٍ أثنية أو طائفية أو حتى مناطقية أحياناً!
المؤلم في واقع الحال العربي أن الأمَّة الواحدة تتنازع فيها الآن «هويات» جديدة على حساب الهوية العربية المشتركة, بعض هذه الهويات «اقليمي» أو «طائفي» وبعضها الآخر «أممي ديني»، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة ثوب هويتها ولا يهم ما ترتدي بعده من مقاييس أصغر أو أكبر، فالمهم هو نزع الهوية العربية!
لو أنَّ كيانات هذه الأمَّة العربية قائمة على أوضاعٍ دستورية سليمة تكفل حق المشاركة الشعبية في الحياة السياسية وتصون الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، فهل كانت ستعيش ضعفاً وتنازعاً كما حالها الآن؟
رغم تنوّع التحدّيات التي تواجه الأمة العربية واختلاف ساحاتها، فانَّ كلا منها يصيب المنطقة العربية كلّها ولا يعني بلداً من دون الآخر، كما أنَّ للولايات المتحدة دوراً حاسماً في كيفية التعامل سلباً أم ايجاباً مع كلِّ عنصرٍ من هذه التحدّيات.
والمؤسف في واقع الحال العربي، أنَّه رغم الاشتراك في التحدّيات والهموم، فانَّ الحكومات العربية تتعامل مع هذه المسائل (وغيرها أيضاً) من منظورٍ فئويٍّ خاصّ وليس في اطار رؤيةٍ عربيةٍ مشتركة تصون الحقَّ وتردع العدوان وتحقِّق المصالح العربية.
أمَّا على الجانب الأميركي، فانَّ هناك رؤيةً أميركيةً واحدة لمشاكل المنطقة العربية كلّها، وهناك أيضاً حلول أميركية لهذه المشاكل قد لا تتوافق مع آمال وطموحات شعوب المنطقة العربية, فانعدام الرؤية العربية المشتركة يقوم على حالةٍ من الصراعات العربية وتجزئة الامكانات والطاقات العربية، بينما الرؤية الأميركية الواحدة للمنطقة تقوم على امكانات وطاقات أكبر قوةٍ عسكرية واقتصادية في العالم المعاصر.
وهذا التباين في واقع الحالين العربي والأميركي، يجعل من «رغبات» واشنطن في المنطقة العربية أشبه ما تكون بأوامر سياسية يتوجَّب تنفيذها، والا فانَّ الضغوطات العسكرية والاقتصادية تفرض تنفيذ هذه «الرغبات»!
انَّ توصيف أمراض الواقع العربي الراهن هو بالأمر الهيِّن، لكن المشكلة الحقيقية هي في كيفيَّة تحديد (الحلول) والوسائل المناسبة لمعالجة هذه الأمراض التي تنقل العرب مع مرور الزمن، من سيء الى أسوأ.
في السياق التاريخي المعاصر للأمَّة العربية، نجد أنَّ ما حدث بعد حرب 1967، كان نموذجاً صالحاً للتكرار في أكثر من حقبةٍ زمنيةٍ معاصرة، وخصوصا الآن.
فالعرب عام 1967 كانوا في أقصى حالات الصراعات العربية ــ العربية، وكانت بينهم حروب عسكرية داخلية (حرب اليمن وتفاعلاتها المصرية ــ السعودية)، وصراعات بين أكثر من حاكمٍ عربي، اضافةً الى انقسامٍ سياسيٍّ حادّ بشأن طبيعة الأنظمة ومناهج الحكم (طروحات الاشتراكية والثورة والوحدة وغيرهما)، وفي ظلِّ مناخٍ دوليٍّ حادّ الاستقطاب كانت تقود فيه أميركا حرباً، باردةً شكلاً وساخنةً ضمناً، ضدَّ المعسكر الآخر، وكلّ من يتعامل معه من دول العالم الثالث,,.
ورغم هذه الظروف كلّها، نجحت قمَّة الخرطوم عام 1967 في تجاوز كلِّ العقبات ووضعت رؤيةً عربيةً مشتركة لكيفية التعامل مح تحدّيات المرحلة آنذاك ولما هو مطلوبٌ عربياً من غاياتٍ مرحلية, أيضاً، نجحت قمَّة الخرطوم في بناء تضامنٍ عربيٍّ مشترك أنهى الصراعات العربية ــ العربية ووضع كلَّ الطاقات العربية في خدمة المعركة ضدَّ العدوِّ الاسرائيلي, وتزامن مع قمَّة الخرطوم سعي عربي مشترك للجمع بين العمل السياسي والديبلوماسي على الساحة الدولية وبين بناء الاستعدادات العسكرية لاعادة تحرير الأراضي المحتلة عام 1967، فكانت حرب الاستنزاف البطولية على الجبهة المصرية متزامنة مع قبول قرارات مجلس الأمن الدولي والمبادرات الدولية التي طُرِحت آنذاك, وكانت هذه الحقبة (1967-1970) هي التي مهَّدت لحرب أكتوبر عام 1973 والتي جمعت بين استخدام الطاقات العسكرية والاقتصادية معاً.
أمَّا اليوم، فالمشكلة في الجسم العربي نفسه، اذ ليس هناك الآن صراعات في المنطقة بشأن طبيعة الأنظمة ومناهج التغيير, فكلّ البلاد العربية محكومة الآن بأنظمة متشابهة الى حد كبير سياسياً واقتصادياً,,.
وليس هناك في العالم اليوم حال من الاستقطاب الدولي، لكي تفرز الحكومات العربية بين صديقٍ وعدوّ لهذه الدولة الكبرى أو تلك، فكلّ الحكومات العربية (كما هو الآن معظم العالم تقريباً) ينشد «صداقة» أميركا! اذن، المشكلة عربياً هي بانعدام القرار العربي في وضع رؤيةٍ عربية مشتركة، وفي عدم تحمّل مسؤوليات الدور القيادي المنشود لأكثر من طرفٍ عربي، وكأنَّ النظام الاقليمي العربي مرتاح لهذا الواقع العجوز طالما أنَّه يحافظ على استمرار النظام والمصالح الخاصَّة الموروثة فيه!
كان العرب بعد حرب عام 1967 يحملون البندقية في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى، اليوم أيادي الوضع الرسمي العربي تحمل كلّها أغصان الزيتون، ولا تحمل معها أيَّ شيءٍ آخر يردع أي عدوان أو يصون الحقوق, فأي سلام يمكن أن يتحقَّق في المنطقة اذا قام على مزيجٍ من بندقيةٍ اسرائيلية و«كاوبوي أميركي» وغصن زيتونٍ عربي؟!
ستبقى التحدّيات على العرب قائمة، بل ومتراكمة، طالما أنَّ منهاج التعامل معها لا يخرج عن صفقاتٍ فئوية تحدث في السرِّ والعلن، فتُحقِّق منافع خاصَّة، لكن لا تؤدّي الى معالجة الأمراض العامَّة في المنطقة والتي تتحوَّل الى أوبئةٍ تصيب أيضاً من عقدوا الصفقات واعتقدوا أنَّهم قد حقَّقوا الأمن الخاص أو السلام المنفرد.
عانت دول أوروبا الغربية من حروبٍ وصراعات دموية وتنافس على الهيمنة، أكثر من أي قارة أخرى في العالم، لكن مجرد اعادة بناء مجتمعات الدول الأوروبية على أسسٍ سليمة أوصلها الى قناعة بأهمية التكامل والاتحاد فيما بينها فجمعت بين حكمٍ ديموقراطي في الداخل، وبين تكاملٍ أوروبي تجاوز صراعات الماضي كلها وتباينات الثقافة واللغة والتاريخ -القائمة في الحاضر- لكن من أجل بناء مستقبل مشترك أفضل.
وهذا ما افتقدته وتفتقده الأمَّة العربية (ماضياً وحاضراً) من تلازم حتمي بين الاتحاد والديموقراطية، وصولاً الى مستقبل أفضل على الصعد كافة