أصبح الإعلام في عالم اليوم مرغوبا ومكروها في نفس الوقت‚ فبينما يقال دائما انه جسر للتعاون بين الثقافات وإثراء الحوار ومن ثم إزالة الكراهية بين الشعوب‚ يقال أيضا انه يتحمل المسؤولية عما آل إليه حال التفاعل بين الحضارات والعلاقات بين الشعوب والدول من تدهور‚ وبينما يقال إنه شرط ضروري لتعزيز الحرية وإثرائها لدى كل البشر بغض النظر عن ميراثهم الحضاري والثقافي‚ يقال أيضا انه آلية سهلة لتدمير الحريات ولنشر الفوضى ومن ثم فإن عليه مسؤولية في كل ما يتوخاه من مواقف وصور للتعبير مرئية كانت أم مقروءة‚

هذه الجدلية بين الحرية والمسؤولية تعكس الأهمية الكبيرة التي يحظى بها الإعلام في حياتنا المعاصرة‚ فما كان كل هذا النقاش الدائر بين المثقفين والإعلاميين عربا كانوا أم أجانب كل يوم على خلفية خبر ينشر هنا أو تقرير تليفزيوني يذاع هناك أو مداخلات ومقالات تزخر بها وسائل الإعلام ليحدث‚ لولا التطور الخطير الذي مس دور الإعلام في حياة الشعوب حيث لم يعد هامشيا أو بسيطا بل عنصرا رئيسيا في مختلف أنحاء التطور الداخلى للأمم وفي صياغة العلاقات الدولية أيضا‚ وقد يرجع ذلك إلى التقدم المذهل في عالم الاتصالات ووسائل التكنولوجيا الحديثة التي وفرت فرصا أكبر لازدهار الإعلام المرئي وكذلك الصحافة التقليدية وظهور الانترنت وما أفرزه من أدوات إعلامية لم تكن موجودة من قبل مثل المواقع الإلكترونية والصحافة الإلكترونية وأخيرا ما يعرف بالمدونات أو البلوجرز‚ كما قد ترجع هذه الأهمية المتزايدة لدور الإعلام إلى موجة الإصلاح السياسي في العديد من بلدان العالم الثالث مما وفر مسرحا عريضا لحركة وسائل الإعلام لم يكن موجودا من قبل‚ خاصة أن حرية الإعلام أصبحت أحد معايير الحكم على مدى قوة هذا الإصلاح‚ إلا أن كل ذلك كان من الممكن اعتباره من العوامل التي تؤدي إلى ازدهار الرسالة الإعلامية ونفعها للبشرية‚ بمعنى أنه يصبح التطور المعاصر في «الثورة الإعلامية» تعبيرا عن الإيجابية في دور الإعلام وأمرا مرغوبا ومحببا للجميع وليس تعبيرا عن السلبية في هذا الدور والنفور من آرائه‚ كان من الممكن ألا يقع كل هذا الضجيج المثار حول دور وسائل الإعلام لو لم تكن هناك مشكلات سياسية داخلية وخارجية هى من الحدة والاتساع إلى حد أن وقع الإعلام في أسر السياسة وخلافاتها الشديدة فانحرف عن مساره وأصبح جزءا أساسيا من صراعات السياسة اليومية‚ وهنا أصبح الإعلام عبئا على الحرية وعصيبا على المسؤولية مما ساهم في حالة الفوضى الثقافية والسياسية السائدة في كثير من الشعوب بما فيها الشعوب المتقدمة وفي زيادة حالة الكراهية وتوسيع الفجوة بين الثقافات بدلا من تجسيدها‚

من المفترض ان الإعلام لن يتعارض مع الحرية ولا مع المسؤولية فهو لا يستطيع أن يعمل في ظل القيود التي تفوق رسالته في الإخبار أو الترويج أو تعليم القيم وبناء الإنسان العصري لتهذيب ثقافته وتأهيله لتقبل كل ما هو نبيل في الفكر الانساني وإبعاده عن كل ما هو غير أخلاقي أو عن أصناف الجمود والتحجر الفكري‚‚ والمسؤولية هنا لا تصطدم بالحرية بل هي حصن الأمان الذي يجملها من الفوضى والضياع‚ ومن ثم فهي قيود مرغوبة لبقاء الحرية وازدهارها‚ ولكن تجدد الحديث عن المسؤولية لا ينصرف إلى هذا المعنى المعتاد‚ وإنما يشير إلى الخوف والجزع مما آل إليه إطلاق العنان لوسائل الإعلام لكي تفعل ما تريد تحت مسمى الحرية في وسط مشحون بالخلافات السياسية‚ في هذه الأجواء تعرض الانجازات الكبرى التي حققها الإعلام المعاصر للإجهاض ولا يبقى على السطح سوى المشاحنات والمعارك الكلامية والاحتقان السياسي والثقافي والمعايير المزدوجة‚ ولا يستطيع أحد إيقاف حالة التداعي في العلاقات بين الشعوب‚‚ الحديث عن المسؤولية الإعلامية هنا لا ينصرف بالضرورة إلى البحث عن قيود لكبح حركة الإعلام وتقدمه‚ وإنما لتخليص الإعلام من الانفلات وتصحيح مساره للعودة به إلى دوره الطبيعي في كشف الحقيقة كمطلب أو حق من حقوق الإنسان‚ وتعميق الشفافية ودعم الإصلاح وبناء الثقة بين الشعوب‚

قد يرى البعض أن الخلاص هو في تفعيل أخلاقيات المهنة‚ وهذا صحيح إلى حد كبير في ضوء التردي الذي أصاب العاملين بها حيث أصبح الكثيرون أسرى إغراء المال والسياسة والمصالح الشخصية‚ ولا يتم ذلك إلا بوضع ميثاق الشرف الصحفي موضع التنفيذ‚ ذلك الميثاق الذي يحتوي عناصر عديدة لعل أبرزها الصدق في عرض الحقيقة وعدم تلوين الأحداث برؤى سياسية بعينها والتحقق من المعلومات واسنادها إلى مصادر قوية مع الاحتفاظ بسرية المصادر إن كان ذلك ضروريا‚ ولكن كم من مواثيق للشرف الصحفي موجودة كوثائق لدى كل المعنيين بالشأن الإعلامي‚ وكم من قيم نبيلة تتضمنها هذه المواثيق‚ وكم من حديث متكرر عن الالتزام بها‚ ولكن ما جدوى ذلك إذا كان الإعلاميون يتعرضون للقصف بأقلامهم وأرواحهم إن جهروا بالحقيقة‚ وإذا كانت الضغوط السياسية عليهم من القوة بحيث تجعلهم إما تروسا في أدوات السلطات السياسية المختلفة أو تجبرهم على الخروج من اللعبة تماما‚

وقد يرى البعض الآخر أن النهوض الثقافي ضرورة لا غنى عنها لإيجاد المناخ الصحي من الفهم والتعارف وإدراك الحقائق وهي مقومات أساسية تساعد على تقبل الرسالة الإعلامية في حجمها الطبيعي دون تهوين أو تضخيم‚ فضلا عن توفير التوافق حول المقصود بالمصطلحات والمفاهيم خاصة في ظل إعلام يعمل بأكثر من لغة وثقافات لها لغات مختلفة‚ ولكن ما جدوى كل هذا في ظل تعمد تدمير الهويات الثقافية الوطنية لصالح ثقافة عولمية واحدة‚ وغياب العدالة عن النظام الدولي المعاصر‚ واعتماد الحروب وسيلة لحل الصراعات‚ وفرض نماذج الديمقراطية على الشعوب دون إرادتها‚ وهي أمور سياسية في جوهرها تعني فرض سيطرة الأقوياء سياسيا في العالم على الضعفاء منه‚ أليس من المنطقي أن تتوقع إعلاما منفصلا في هذه الحالة ينحو نحوا سياسيا خارج رسالته التي يقام من أجلها‚ إنه وضع يؤدي إلى إيجاد «مزاج عام» يميل إلى الكراهية وإلى التمرد والتشكك والامتناع بمنهج المؤامرة‚ ومن ثم يبحث لنفسه عن إعلام يعبر عن نفسه لا يأخذ في اعتباره قضية الاهتمام بالحرية ولا الإحساس بالمسؤولية‚

لقد كان بالإمكان ألا نشهد هذا الاحتقان الإعلامي الذي وقع مجددا بين الشرق الإسلامي والغرب على خلفية إساءة بعض الصحف الدنماركية والبلجيكية ثم مؤخرا الفرنسية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بنشر رسوم كاريكاتورية تمس بذاته الكريمة‚ كان بالامكان ألا يحدث ذلك لو ان المناخ السياسي بين الجانبين في أفضل حالاته‚ ولكنه وقع بسبب الخلاف السياسي الذي هو من تداعيات أحداث 11 سبتمبر وما يثار حول الإرهاب‚ صحيح أن الثقافة العلمانية في تلك الدول تسمح بمثل هذه الاعتداءات على الأديان كلها‚ ولكن العداء السياسي أحيى بقوة نزعات التطرف العلمانية وجعلها تطفو على السطح‚ وكان من الأسباب التي جعلت الدول الاسلامية تتقاعس عن توضيح حقيقة الإسلام لمثل هذه الشعوب العلمانية بحيث لا يقدم أحد من أبنائها على الإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم‚ وما زاد الطين بلة هو موقف هاتين الدولتين من الناحية الرسمية حيث لم تعطيا الاهتمام لمعالجة الأزمة منذ وقت اندلاعها عندما رفضت حكومة الدنمارك تحديدا مقابلة سفراء الدول العربية والإسلامية الذين أرادوا الاحتجاج وطلبوا اعتذارها‚ ونفس الخطأ وقعت فيه الدول العربية والإسلامية عندما تأخرت كثيرا في التحرك المضاد‚ مما أثار غضب الشارع‚ وانتقل الغضب إلى الإعلام وإلى أن يتصرف أبناء الدول الإسلامية من تلقاء أنفسهم للرد على هذه المهانة‚ على الجانبين كانت السياسة هي المشكلة سواء بكونها إطارا انطلقت منه أو بكونها آليات لمعالجة الأزمة تم تعطيلها دون حسبان لتداعي رد الفعل الشعبي‚

والغريب أن الإساءة للإسلام في شخص نبيه الكريم جرى تبريرها من جانب من قاموا بهذا العمل المشين على أنها حرية للرأي والتعبير‚ بينما لو أن أحدا في المنطقة الإسلامية قال بزيف الهولوكوست بدعوى حرية الرأي والتعبير أيضا لقامت قيامة هذه الدول الغربية‚ هنا المسألة لا تتعلق بالحرية كما يقولون وإنما بمواقف سياسية مقصودة من جانب من قاموا بهذا العمل‚ وبنفس الإطار السياسي للمشكلة جاء رد فعل الشعوب الإسلامية التي شعرت بالصدمة من مثل هذه الإساءة‚ وذلك عندما تصرفت من تلقاء نفسها وقررت مقاطعة البضائع والمنتجات الدنماركية والبلجيكية‚ هنا فقط اهتزت هذه الدول وقلقت وسعت إلى لملمة الموقف‚ ولكن بعد أن فعلت الأزمة تداعياتها المؤسفة في المشاعر بين الشعوب الإسلامية‚ وكان بالإمكان تجنب هذا الوضع منذ البداية لو أن العلاقات السياسية سوية‚

مثال آخر على ما نشهده من احتقان إعلامي على خلفية صراعات السياسة‚ هو رد فعل الإعلام الغربي على فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية‚ فبرغم فوزها بانتخابات ديمقراطية اعترف بها الجميع‚ إلا أن هذا الإعلام قرر من اللحظة الأولى لإعلان النتائج شن حملة لتشويه صورتها وترهيب العالم منها وتأليبه عليها مهملا كل خطابه المكرر في الحديث عن الديمقراطية وأهميتها كطريق للإصلاح السياسي في المنطقة‚ أى أن الموقف السياسي الغربي المناهض لحماس هو الذي أصبح حكما في القضية وليس الدعوة إلى الديمقراطية‚ ولم تكن هذه الحماقة الأولى التي ارتكبها الاعلام الغربي خاصة الأميركي منها‚ فقد سبقها في الماضي دفاع هذا الإعلام عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق‚ وبعد ان اتضح زيف ذلك‚ اضطرت بعض صحفه الكبرى مثل نيويورك تايمز إلى الاعتذار‚ ولكن بماذا يفيد الاعتذار بعد أن جعلت هذه الصحف نفسها داعما أساسيا لحملة الرئيس بوش في غزو العراق واحتلاله!

إن فك الارتباط بين الإعلام والسياسة بصورتها الراهنة سواء بالنسبة للدول المتقدمة أو دول العالم الثالث هو المخرج من الاتهام الموجه الآن للإعلام بأنه لم يعد وسيلة لتجسيد الفجوة بين الشعوب بقدر ما أصبح موضعا لتبديد الثقة فيما بينهما‚ بمعنى أنه يتعين العمل أولا على تحرير الإعلام من أخطاء السياسة قبل الحديث عن أخلاقيات المهنة أو صياغة إطار للتوافق حول جانب المسؤولية الملقى عليه‚