لعل تداعيات ما أقدمت عليه صحيفة دنماركية وآزرتها صحف ووسائل إعلام أوروبية أخرى قد شكلت مادة دسمة لوسائل الإعلام العربية والأجنبية طيلة الأيام الماضية، ولم تقلل من التركيز عليه سوى كارثة إنسانية أخرى تجسدت في غرق عبارة مصرية كانت تقل حوالي 1400 راكب، قضى بعضهم غرقا، وتم إنقاذ البعض الآخر.

وهذه الوتيرة الإعلامية المتصاعدة، وهذا النقاش الذي يشبه حوار الطرشان بين الشرق والغرب أو بين ثقافة المجتمعات في الشرق والغرب، أكد من جديد حاجة المجتمع العالمي إلى نظام أخلاقي جديد، وليس نظاما عالميا تقوده دولة واحدة تحتكر السلطة والتجارة والسياسة والمفاوضات والصناعة وغيرها، لأن كل الإنجازات البشرية وكل التقدم التكنولوجي لا يمكن أن يكون له معنى من دون نظام أخلاقي يؤطر التعامل مع الثقافات والحضارات حتى لا تبقى مبادئ الحوار غامضة، وتتخفى وراء مقولات مثل حرية التعبير وليبرالية المجتمعات. حيث ثبت بالدليل القاطع أن هذه المقولات فضفاضة وتتمتع بازدواجية أخطر من الازدواجية السياسية، وأشد فتكا من التحالفات العسكرية، ولا نريد القول إن هذه الازدواجية الأخلاقية هي التي تتسبب في اندلاع الحروب وعدم التمييز بين الأخلاقي واللاأخلاقي.

إن الراصد والمتتبع لتفاعل السياسات العربية والإسلامية الرسمية تجاه ما ارتكبته الصحيفة الدنماركية ومعها صحف أوروبية من إساءة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يدرك تمام الإدراك تباين المواقف التي لم ترتق إلى هول الجرم الذي ارتكبته تلك الصحيفة، بينما المواقف الشعبية العربية كانت أشد وأقوى وأكثر صراحة من المواقف الرسمية، وهنا تظهر مشكلة كبيرة على السطح تتمثل في مدى قدرة السياسات الرسمية على إدارة الأزمات الكبرى، وهذه أزمة أكبر من الأزمات وكل الصراعات، وكانت عبارة عن بالون اختبار أوروبي للمزاج العربي والإسلامي، بل وللمزاج الأخلاقي في العالم، ولا ندري ما هو السبب الحقيقي الذي يدفع صحيفة دنماركية لنشر رسومات أقل ما يمكن أن توصف بأنها عمل لا أخلاقي وجاهل لا يعرف شيئا عن الإسلام أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهنا لا يمكن تحميل المسلمين وزر جهل نسبة كبيرة من العالم الغربي بالرسول والقرآن الكريم والإسلام، ولا تحميل الدول التي تؤمن بحرية الفكر والتعبير وزر هذا الجهل أيضا، ولكن يمكن انتقاد المقولات التي انشغل بها العالم لفترة طويلة، والتي تحدثت عن النظام العالمي الجديد، و عصر العولمة، وثقافة السلام، وكل الذين يقفون وراء هذه المقولات، لأنهم لم يضعوا الإطار القانوني الأخلاقي المناسب لهذه الثقافة الفضفاضة التي يدعون إليها، والمؤسسات العالمية التابعة للأمم المتحدة ليست بعيدة عن هذا الاتهام. فمنذ فترة ومنظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة ومعها منظمات أخرى، تروج لثقافة السلام وحوار الحضارات وتقبل الرأي الآخر، وتعقد مؤتمرات وندوات وتنشر مطبوعات ودوريات وتحاكم الدول الأخرى وتصنفها طبقا لمستوى تطبيق هذه الثقافة. والآن، وقد حصل ما حصل من الرأي الآخر، فهل لا تزال تلك المؤسسات تثق بما حققته، والذي يساوي صفرا مكعبا على أرض الواقع.

وحين لا يمكن تحميل وزر جهل العالم الغربي بالرسول الكريم عليه السلام والدين الإسلامي، فلا يمكن تبرئة ساحة المؤسسات الإعلامية والثقافية العربية والإسلامية، ولا ساحة المفكرين العرب والمسلمين، ولا أيضا ضعف أداء السفارات الإسلامية والعربية في الغرب وفي العالم أجمع. ولا أساليب تعاملنا مع الأشخاص غير المسلمين الذين يفدون إلى أرضنا ودولنا العربية للعمل والسياحة والزيارة، وهذه مهمة وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية، خاصة مؤسسات التعليم العالي، والإدارات السياحية والتاريخية وغيرها.

هؤلاء مسؤولون عن قدوم ومغادرة الإنسان غير المسلم من دون أن يتعرف إلى فكرة ولو موجزة عن الإسلام وثقافة المسلمين. ودول مجلس التعاون التي يفد إلى مؤسسات التعليم العالي آلاف الإداريين والمدرسين من غير المسلمين، تتحمل جزءا من مسؤولية عدم نشر الثقافة الإسلامية. بل على عكس ذلك، فإن الكثير من هذه المؤسسات تجاري هؤلاء بأنماط حياتهم حتى لا يقولوا عنا إننا متأخرين.

نقول في أدبياتنا، رب ضارة نافعة، وإنها لفرصة كبيرة كي نراجع أنفسنا ونتقي الله في سياساتنا الإعلامية، ونظرة عابرة إلى الفضائيات العربية وعلى معظم الصحف اليومية العربية، فإننا نلمس بوضوح، أن القيم التي تنشرها هذه الوسائل تتناقض تناقضا صريحا مع القيم الأخلاقية العامة، وليس مع القيم الإسلامية فقط. ترى، أي أخلاق وقيم تنشرها الصحف العربية ومن خلفها الفضائيات العربية، وأي لغة مسفة هذه التي تتحدث بها هذه الوسائل، وأي ميوعة وأي انحطاط وأي صفاقة.

إن هذه المظاهر غير الأخلاقية التي تروج لها وسائل الإعلام العربية، ناهيك عن المقالات التي تمجد الحضارات الغربية والسياسات الغربية، تجعلنا في حيرة من أمرنا، وتجعل القارئ والمتابع العادي للأحداث يطرح ألف علامة استفهام حول استراتيجة إدارة الأزمات التي تتبعها الأنظمة العربية والإسلامية.

إننا في حاجة ماسة، بعد هذا الجدل الذي فهم الغرب مغزاه، وبعد الأزمات التي قد تسفر عن أزمات أخرى، لأن نطالب العالم أجمع بنظام أخلاقي عالمي، تقوده الدول الإسلامية والمؤسسات الدينية في العالم، ومنها الفاتيكان، بنظام أخلاقي عالمي جديد (النظام الأخلاقي العالمي الجديد)، يعيد الاعتبار إلى حوار الثقافات والأديان والحضارات على أسس من احترام ثوابت الشعوب ومقدساتها.