أصاب الفوز الكبير لحركة المقاومة الاسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الاخيرة ثلاثة اطراف اساسيين معنيين بالصراع الفلسطيني – الاسرائيلي بصدمة قوية هم حركة "فتح" العمود الفقري للسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس (ابو مازن) واسرائيل والمجتمع الدولي أو بالأحرى القوى الاساسية فيه الساعية الى انهاء هذا الصراع رغم الانحياز التام لبعضها الى اسرائيل وفي مقدمها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي.

واوقع الفوز نفسه القوى الأقليمية المعادية لاسرائيل وللمجتمع الدولي أو بالأحرى لزعيمته الاحادية الولايات المتحدة وفي مقدمها الجمهورية الاسلامية الايرانية وسوريا و"لبنان حزب الله" في سعادة غامرة. الصدمة سببها الموقف الجذري من رفض الكيان الاسرائيلي والذي تتبناه "حماس" منذ نشوئها والانعكاسات السلبية المحتملة له على الاوضاع الامنية داخل اسرائيل والاراضي الفلسطينية التي تحتل وعلى عملية السلام التي تقودها "الرباعية الدولية" بغية وضع حد للصراع المذكور اعلاه وكذلك على الاوضاع العامة في الشرق الأوسط في ضوء تنامي التيارات الاسلامية الاصولية فيها وتفاقم الحرب أو على الاقل المواجهة القائمة بين الاخيرة ومعظم المجتمع الدولي. اما السعادة فسببها شعور القوى المعادية التي تخوض في هذه المرحلة أصعب المواجهات مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عموماً ومع اسرائيل من خلالهما بأن رصيداً كبيراً اضيف الى ما تملك الأمر الذي يمكّنها من الاستمرار في الصمود وربما في الأمل في تحقيق بعض النجاح اذا كان النجاح الكامل متعذّراً لاسباب كثيرة معروفة.

هل بقيت القوى المعادية لاسرائيل والمجتمع الدولي بزعامة اميركا على شعور السعادة ؟ وهل بقيت الصدمة مسيطرة على الاطراف الثلاثة الاساسيين المعنيين بالصراع الفلسطيني – الاسرائيلي؟

لا أحد ينتظر زوال الشعور بالسعادة او ازدياد حجمه في وقت قريب. ذلك ان الأمرين يتعلقان باداء "حماس" بعد تأليفها الحكومة. وهذا التأليف لا يبدو قريباً لأسباب متنوعة منها ضرورة اجراء مشاورات بين الاطراف الفلسطينيين المتنوعين والمتناقضين وتوصلهم، اذا تمكنوا من ذلك، الى مشروع مشترك لا يقضي على "الانجازات" التي تحققت على يد منظمة التحرير والسلطة الوطنية رغم عدم موافقة البعض على تسميتها انجازات ولا يفقد "حماس" رصيدها الشعبي والسياسي والنضالي بسبب تنازل عن مواقف وقيم هي جزء من فكرها وايديولوجيتها الدينية. فضلاً عن ان اصحاب الشعور بالسعادة هم من قوى رد الفعل وليس الفعل ويعني ذلك ان رد فعلهم على ما يجري بعد انتصار "حماس" لا بد ان يتوقف على ممارساتها والتنازلات التي يمكن ان تقدمها ومدى اضرار تنازلات كهذه بالمواجهة الشرسة التي تخوضها القوى المذكورة.

اما شعور الصدمة فان المواقف المعلنة التي اتخذها كل الاطراف المعنيين بالصراع الفلسطيني – الاسرائيلي سواء كانوا جهات فلسطينية او جهات اقليمية ودولية مع بعض المعلومات المتسربة من رام الله تشير الى انه الى زوال أو بالأحرى تشير الى ان التعامل معه وبواقعيته بغية ازالته قد بدأ. فاسرائيل بدات تتحدث عن العودة الى تحويل المستحقات المالية للسلطة الوطنية الفلسطينية الى الاخيرة بعد اتخاذها قراراً بتجميد هذا الأمر بعد فوز "حماس".

وعدد من الاطراف الاسرائيليين بدأوا يتحدثون عن ضرورة الحوار مع "حماس" بطريقة ما، والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي اللذان هددا بوقف المساعدات للسلطة الوطنية بل للشعب الفلسطيني اجلا تنفيذ تهديدهما بضعة أشهر نظراً الى الحال المالية والاقتصادية البالغة السوء داخل المجتمع الفلسطيني، ويعني ذلك ضمناً ان الفريقين اللذين يعرفان ان وقف المساعدات يوقع الفلسطينيين في مأزق وينهي عملية السلام رغم هشاشتها لا يرغبان في التسبب بمأزق أخطر من المأزق الذي نشأ بفوز "حماس" في الانتخابات التشريعية.

أما السلطة الوطنية الفلسطينية بعمودها الفقري حركة "فتح" فقد تجاوزت مرارة الخسارة الانتخابية والتحرك "الفتحاوي" الشعبي الفوضوي الذي أعقبها. اذ اكد رئيسها محمود عباس انه سيكلف "حماس" تأليف الحكومة وانه لن يضع عراقيل في وجهها وانه سيساعدها في محاربة الفساد، شعارها الاساسي، والذي انهك السلطة والذي كاد ان ينهي "فتح" وانه سيعمل لترتيب علاقاتها المتردية مع عدد من الجهات العربية وفي مقدمها الاردن. طبعاً لا يعني ذلك انه سيساعد "حماس" على تحطيم "الانجازات" التي تحققت منذ 1993 حتى الآن على مبدئيتها وعدم نهائيتها.

فهو سيتمسك بصلاحياته الدستورية وسيسعى الى مساعدة "حماس" على التكيف مع الوقائع وتالياً متابعة مسيرة النضال بكل الوسائل لاستعادة الحقوق وفي مقدمها اقامة الدولة المستقلة التي عاصمتها القدس وايجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين. اما "حماس" فقد اظهرت من جهتها حسن نية في عدد من المواقف التي أعلنها قادة بارزون فيها فبعضهم أعلن ان تنظيمه سيتعامل بواقعية مع اتفاق اوسلو، وبعضهم الآخر أعلن ان الحركة ستلتزم الاتفاقات الموقعة بين السلطة الوطنية الفلسطينية واسرائيل شرط ألا تُمس الحقوق أو المطالب الجوهرية. ورغم ان هذا الشرط يفتح الباب مشرعاً نظرياً أمام رفض هذه الاتفاقات فإن أحداً لا يتوقع أو لم يكن يتوقع ان تبادر "حماس" فور اعلان فوزها وقبل تأليف حكومتها الى التخلي عن كل مواقفها واوراقها. وبعضهم الثالث تحدث عن هدنة طويلة مع اسرائيل قبل قيام الدولة وبعد قيامها مؤكداً بذلك انه لن يعترف بالدولة اليهودية. وهذا الأمر كان متوقعاً بدوره اذ لا يمكن ان ينتظر أحد منها "التكويع" وبنسبة 180 درجة.

ماذا يعني ذلك؟

يعني ان كل الاطراف وضعوا بعضاً من "الماء في نبيذهم" كما يقال كي لا يُسكر او كي لا يدير الرؤوس. واذا كان ذلك مطلوباً في هذه المرحلة الانتقالية التي يستعد الشعب الفلسطيني لها في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، فانه لن يكون كافياً بعدها أي بعد تسلم "حماس" السلطة عبر الحكومة. لأن المطلوب بعد ذلك هو النجاح لأن اي فشل سيكون للشعب الفلسطيني وليس لـ"حماس" وحدها أو لأي تنظيم منافس آخر. والنجاح يقتضي من الدول العربية المهمة التي لها علاقات ما مع "حماس" وعلاقات جيدة مع المجتمع الدولي وعلاقات مع اسرائيل ان تبادر الى العمل للتوصل الى ارضية مشتركة يمكن الانطلاق منها والبناء عليها. وهي بدأت ذلك على ما يبدو من تصريحات رسمية مصرية رغم التناقض فيها او بالأحرى رغم الفوضى او الالتباس "البناء" الذي غلفها.

ويقتضي النجاح نفسه ايضاً انخراطاً دولياً واميركياً كبيراً يعزز المسيرة الديموقراطية في "فلسطين" ومن خلالها الديموقراطية في العالم العربي. ولا يكون ذلك الا بالعدل وبمساعدة اسرائيل والفلسطينيين على التوصل الى حل عادل وشامل ودائم لصراعهما. ويقتضي النجاح اياه اخيراً ان تحافظ "حماس" على مكتسبات عدة منها استقلال القرار الوطني الفلسطيني. ولا ينطلق ذلك من خلفية عدائية حيال جبهة مواجهة المجتمع الدولي العربية – الاسلامية بل من حرص على عدم تحوّل القضية الفلسطينية مرة أخرى ورقة او اداة في يد أحد. ومنها ايضاً وحدتها الداخلية وخصوصاً في ظل ما يقال عن تباينات بين "حماس" الداخل و"حماس" الخارج. ومنها اخيراً عدم الانخراط طرفاً او فريقاً في الصراعات الدائرة في لبنان سواء بين اللبنانيين أو بين قسم كبير منهم وجهات اقليمية عدة او بين قسم آخر منهم وجهات دولية. فانخراط كهذا يدمر لبنان ويلحق اذى بالغاً بالقضية الفلسطينية مماثلاً او ربما أكبر من الاذى الذي الحقه بها انخراط منظمة التحرير في سياسات لبنان ثم في حروبه في اواخر الستينات وكل السبعينات وبعض الثمانينات من العقد الماضي.