عام 1956 هو عام استقلال السودان وتلك كانت المرة الأولي والأخيرة التي توحدت فيها إرادة القيادات السياسية في السودان برغم أن الذي كان يطالع المشهد السياسي السوداني آنذاك كان يوقن بأن الأحزاب السودانية لن تتفق أبدا علي ما ستكون عليه البلاد هل سيكون هنالك استغلال ثم اتحاد مع مصر التي كان السودان يشكل معها دولة ممتدة من منتصف القارة الإفريقية حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط أم يبقي الاستعمار الانجليزي بعد انقضاء أجل الحكم الثنائي حتى يتمكن أهل السودان من التأهل ليحكموا أنفسهم بأنفسهم دون تحديد قيد زمني لرحيل المستعمر أم يستقل السودان من الحكم الثنائي بصفة نهائية.. بين تلك الأطروحات المختلفة كان يتأرجح تيرمو متر السياسة الوطنية السودانية .. ولكن فوجئ الجميع بإعلان الاستقلال بعد اتفاق القيادات السياسية السودانية ليخوض السودان تجربة الاستغلال والتقلبات السياسية المختلفة والدورات المتعاقبة مابين الحكم المدني والعسكري حتى كاد الكل أن يكون علي قناعة تامة بأنه لا مفر من تكرار هذه الدورة واستمرارها وبنفس الإيقاعات.

بيد أن امرأ جديدا وعنصراً خارجياً بدأ يلوح في الأفق القريب ألا وهو ما يعرف بالمجتمع الدولي الذي تشكله أمريكا وحليفاتها الغربية وذلك من خلال استخدام سلاح مجلس الأمن الدولي والضغوط الإعلامية والسياسية والاقتصادية ثم العسكرية في خدمة أهداف هذا المجتمع الدولي أو النظام العالمي الجديد.. وظل السودان هدفاً لهذا السلاح الخطير منذ وقت ليس بالبعيد، برغم ما بذلته الحكومات المتعاقبة من جهود مقدرة لتطبيع العلاقات مع أمريكا.. وكانت أمريكا عنصراً أساسيا في حرب الجنوب التي تطاولت لما يزيد عن العقدين من الزمان برغم تعاقب الحكومات ...وبعد توقيع اتفاقية السلام في يناير2005 بين الحكومة وحركة التمرد والبدء في تنفيذ بنودها الصعبة علي ارض الواقع من دستور انتقالي وحكومة وحدة وطنية تشارك فيها الحكومة والحركة وعدد من الأحزاب السياسية إلا أن هناك أزمة ثقة في ما يدور ويجري من عمل .. وهناك تردد ومزايدات ..وهناك أحكام مسبقة تصدرها جهات لم يعجبها كل ما جري من متغيرات ومن تقدم في التحول الديمقراطي ...فمازالت قضية الحدود بين الشمال والجنوب (ابيي) تشكل مشكلة .. وقضية قسمة السلطة والثروة مشكلة.. وقضية الحكومة( المشكلة) مشكلة والمعارضة التي اختارت المعارضة مثار خلافات وهي كذلك مشكلة.

أين الثوابت التي يتفق عليها السياسيون والمواطنون في كل بلاد الدنيا.. أين الارتباط بالأرض وعدم المساس بالبلاد لا بالتقسيم ولا بالتدمير ولا بطلب عودة المستعمر مرة أخري .. أين التعايش السلمي وتداول السلطة ديمقراطياً وسلمياً.. إلي أين سينتهي بنا هذا الاختلاف وهذا العناد وعدم التحفظ في إلغاء الآخر وعدم احترام الرأي والرأي الآخر .. أهل السودان ظلوا ومنذ أن اتفقوا علي الاستقلال ثم اختلفوا ظلوا في حالة اختلافات ليس في نظام الحكم وليس في احترام وحدة السودان بل حتى الدين فهناك رؤى و أطروحات مختلفة تصل في التعصيب لها حتى القتل ونحمل السلاح لا تجمعنا النظم الشمولية ولا تجمعنا الديمقراطية ولا تجمعنا الاتفاقيات.. فنتفق ليلا وفي الصباح يكون لنا رأي آخر ! نحن مازلنا منقسمين إلي فرق وطوائف وقبائل وجهات وما زلنا لا نكن أي ولاء للوطن..ولا التزام بالتراب ولا اعتراف بالثوابت فإلي متى سنعيش هكذا في حالة تشرذم وتجمعات وقبليات لماذا لا نستمسك بما فعله الذين استنوا سنة الوحدة .. وحدة الأمة و الأرض .. لماذا لا نتفق علي كلمة سواء.. لماذا نشتط في الخلاف لدرجة بلوغ مرحلة تدمير وحدتنا ودعوة المستعمر للعودة لسلب إرادتنا وتغيير هويتنا ونهب مواردنا.

عموماً الفرصة مازالت مواتية للعودة إلي صوت العقل وإلا فان الانقسامات والحروب والفتن والضعف وزوال الكيان هو المصير المحتوم فهل من يسمع أو يعي أو يعقل؟!!