لا شكّ بعد الآن في أنّ العالم انفتح على معاناة اليهود لكن هل انفتحت معاناة اليهود على العالم ومعاناته؟ ليتني كنت أستطيع أن أجزم.

قبل ثلاثة أشهر، قرّرت الجمعيّة العمومية للأمم المتّحدة تعيين يوم 27 كانون الثاني لإحياء الذكرى العالمية للمحرقة وضحاياها. من الآن فصاعداً، ستحتفل بلدان عدّة بهذه الذكرى كلّ سنة، لأنّها تمثّل اليوم الذي حرّر فيه الجيش الأحمر معسكر الموت في أوشفيتز-بيركنو.

يوم الجمعة الماضي [27 كانون الثاني]، بعد 61 عاماً من التحرير، نُفِّذ قرار الأمم المتّحدة لأوّل مرّة، وتردّدت أصداؤه في كلّ أنحاء البلاد، واسودّت السماء لأنّنا نتذكّر في هذا اليوم أنّ لا أحد عاملنا برأفة في ذلك الوقت. وأحيت دول العالم أيضاً الذكرى في أجواء من الحزن. فجأةً أصبح العالم إلى جانبنا، العالم نفسه الذي يصرّ عدد كبير من سياسيّينا على وصفه بأنّه معادٍ لنا.

في كتابي الجديد الذي نُشِر هذا الشهر، حاولت أن أفهم الظلام الذي أنزله الله، ولا سيّما الناس، بهذا العالم. منذ أن بدأت أكوِّن آرائي الشخصيّة، انجذبت إلى هناك، إلى أوشفيتز-بيركنو، مدفوعاً برغبتي الشديدة في أن أفهم، وبفظاعة ما فهمت. من أنا؟ من وُلِد هنا؟ وصولاً إلى التجرّؤ على نقض كلام ك. تزتنيك الذي وصف أوشفيتز ب"كوكب آخر". لكن ربّما كان سبب الشعور بالفظاعة والاشمئزاز هو أنّ أوشفيتز لم تكن كوكباً آخر بل كانت الكوكب نفسه، كوكب الجنس البشري، أو بالأحرى الجنس غير البشري، كوكبنا.

انفتح المجتمع الدولي علينا وينفتح أمامنا، ونعرف دائماً كيف نسأل لكنّنا لا نعرف دوماً ما الذي يجب أن نسأله: هل كانت محرقة الشعب اليهودي حالة منفردة فعلاً وليست هناك محارق أخرى؟ ألم تُقتَل أمم أخرى قبل ذلك، ألا تُقتَل أمم أخرى الآن؟ صحيح أنّ للمحرقة اليهودية خصائصها التي تجعلها فريدة من نوعها. فعلى الأرجح أنّ ما من شعب آخر فكّر في تدمير أمّة بكاملها وابتكر فكرة "الحلّ النهائي" ثمّ خطّط لها بعناية ونفّذها بمنهجيّة وفاعليّة. لكنّ تاريخ الجنس البشري غير بشري، ومليء بالإبادات في طريقه نحو الجحيم على الأرض.

في القرن الماضي وحده، قُتِل أكثر من 140 مليون شخص، وما زالت اليد الدمويّة تبحث عن المزيد. لا داعي للمقارنة بين المحارق والإبادات لإدراك معاناة أمم أخرى والتماهي معها. المحرقة اليهودية شيطانيّة جداً إلى درجة أنّها تسمح لنا بأن نشاطر الآخرين المعاناة والألم وليس أن نحتكرهما لأنفسنا. وحتّى عندما نشاطرهم المعاناة، تبقى هناك ممارسات لا نستطيع تحمّلها. هتلر ليس حالة وحيدة، فستالين قتل عشرات الملايين من شعبه وكذلك الأمر بالنسبة إلى ماو. وفي القرن العشرين، قُتِل الأرمن والكمبوديون والروانديون والبوسنيون. والآن تحصل إبادة في دارفور جنوب السودان. ويلتزم العالم الصمت كالعادة، وكأنّ الوقوف على الدماء يخنق صوتها لكنّها تصرخ. حتّى هنا في إسرائيل، لا أحد يسمع. قد نكون يهوداً لكنّ آذاننا غير مختونة.

نحن اليهود أينما كنّا، الضحايا الطبيعيين والتاريخيين، يجب أن ننقل إلى العالم بأسره الرسالة الآتية: ما فعلته ألمانيا شرّيرةٌ بنا يمكن أن يحصل للآخرين. ليست المحرقة أمراً يحصل مرّة واحدة على يد الألمان فقط، وليس اليهود وحدهم ضحاياها. اختبأ هتلر في "الغابة السوداء" ومن يدري متى يظهر من جديد وأين.

لا نخدم بإخلاص الدرس الذي تعلّمنا إيّاه المحرقة من خلال اعتبارها حقاً حصرياً لنا بل عبر مشاطرتها مع العالم. من يريدون وضع المحرقة في كتاب الأمس بصفتها درساً يُحتضَر يصرّون على الحصريّة. أمّا من يريدونها أن تكون درساً حيّاً في كتاب اليوم والغد فيصرّون على شموليّتها، وهذا ما يرمز إليه اليوم العالمي لإحياء ذكرى المحرقة.

إذا لم تتحوَّل درساً عاماً، تفقد ذكرى المحرقة رسالتها التربويّة وقيمتها وقوّتها الرادعة. ليس بعيداً اليوم الذي ستصبح فيه صورة المحرقة ضبابيّة، وعندئذٍ لن تنفع الذكرى. بوجود عدد كبير من الأيّام الرسمية لتذكّر المحرقة، لن تكون هناك ذكرى حقيقيّة. وقد قرّر المجتمع الدولي أنّه يريد تعليم الدرس إلى كلّ من هو مستعدّ لتعلّمه، إلى الجميع في العالم. أهذا ما نريده نحن أيضاً؟ "تذكّروا ما فعله العماليق بكم" – بالتأكيد تذكّروا وذكِّروا الآخرين. لكن لا تتذكّروا فقط العماليق وما حلّ بكم ولا تتذكّروا هذا كلّه في صيغة الماضي فقط.