أدمن اللبنانيون منذ العام الماضي وأحداثه الجسام التسمّر أمام التلفزيونات في كل مساء وسماع مختلف التصريحات، من جميع التوجهات. وأدمن المصرّحون الظهور والتصريح اليوميين، حتى اصبحنا لا ندري، ولعلهم هم ايضاً لا يدرون، إن كانوا مسؤولين سياسيين أم نجوم تشخيص في الاستوديوات.

منذ زمن طويل وأنا أشعر أننا نعيش في "دولة اذا بتريدوا"، ومنذ زمن طويل وكثير من اللبنانيين يعجبون لقلّة التجاوزات في ظل دولة عاجزة الاّ عن "اذا بتريدوا". وكثيراً ما ذكر ان الأذى يبلغ مداه في بلدان أرقى منّا عندما تتراخى الرقابة وهيبة الدولة، ولو لساعات، وكأننا نحاول إقناع أنفسنا بأننا من جنس الملائكة وأن "اذا بتريدوا" كافية عندنا بينما لا تكفي عند سوانا. فالمجرم عندنا يتوب والسارق يصرّح تصريحات أخوية جميلة قريبة الى القلب تضعه في نظر البعض ضمن فئة "شاب واستحلى" والمتقاعس يبدي من خلال التصريحات أسفه وتحضّره وحسن نياته، وكأن دولتنا توظّف مسؤوليها لميزاتهم الشخصية ونجوميتهم الاجتماعية وليس لعمل موصوف عليهم القيام به او يحاسبون فيقالون، على أقل تعديل.

أما آن لنا، بعد كل ما مرّ بنا، أن نعي أن "اذا بتريدوا" لا تكفي لبناء دولة ولا للحفاظ على مجتمع؟ واذا كانت ثقة اللبنانيين بعبقريتهم تؤدي الى نبوغ وريادة، فهل تؤدي ثقة المسؤولين بأن اللبنانيين ليسوا بحاجة الى قوى رادعة او قضاء يحاسب او ذاكرة لا تسمح بأن يتساوى المجرم مع المحسن ولا أغنياء السلطة مع فقرائها ولا القائمون بالعمل الموكول اليهم مع فاقعي التصاريح، الى أي خير مرتجى؟

هل يمنع شاغلي الوظائف من القيام بالعمل الذي انتدبوا له ايمان على طريقة سعيد عقل بأن اللبنانيين هم غير سائر البشر؟ وماذا عن غير اللبنانيين ممن استوطنوا البلد ولم نقابلهم الا بـ"اذا بتريدوا"؟ هل هم ايضاً فوق البشر، انتقتهم الطبيعة بحيث لا يكون بينهم رعاع او حاقدون او سيئو النيات؟

ماذا يلزم الدولة والقضاء والأمن حتى يمارسوا وظائفهم؟ ولمَ لا يطالبهم المواطنون بإعادة رواتبهم الى الخزينة إن لم يقوموا بما تتطلّبه هذه الوظائف؟ وهل تدري الدولة وأربابها أن تقاعسهم هذا يجعلهم، ويجعلنا، موضع سخرية واستخفاف واستباحة، رغم ما ورّدناه ونورّده للعالم من عبقرية، ورغم ما بذلناه وبنيناه وارتقينا به في سبيل العروبة من فداء وضيافة ومساهمة كبيرة في الأدب والفن والفكر والسياسة؟

لعل الاوان لم يفت. فلنبدأ بحساب من عرّض بالامس وطننا للتفكّك وأملاكنا وكراماتنا للانتهاك، بمن دعوا الى تظاهرة لم ينظموها ولم يحدّدوا لها أهدافاً مشروعة، مروراً بالمنخرطين في التعبير عن حقد وعنف فاجرين لا يرضاهما الله ولا رسوله ولا يرضاهما وطن يحسب الحساب لهيبته ولحفاظه على القانون والحق، وطن يهتم لوقع تاريخه وصورته بين الاوطان ولأمن مواطنيه واعياً لأهمية تطبيق القضاء أحكام القانون وما يمليه من مساءلة وعقاب في هذه الحادثة وفي سواها. فعتبي الكبير وعتب الكثيرين ممن هاجسهم خير الوطن وبقاؤه هو على قضاء ينام عن التحقيق في الجرائم ويغض الطرف عن سارقي المال العام، بل يقرّ بالمبالغ الخيالية لمن استفاد بغير حق من إفقار البلد ومن تشويه جباله، من قبح بجشعه وفجوره وجه كل لبناني، لكونه نموذجاً لكل نواقص تلصق بنا، وبرهاناً على أن ما وُصمنا به من أيام سقراط وأرسطو من حب المال بدرجة لافتة له ما يبرّره.