من الواضح أن الحكومة الدنماركية افتقدت الحنكة والحكمة معاً في معالجتها أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لنبي المسلمين صلى الله عليه وسلم• والأرجح أن قلة المشاكل، بل اللامشاكل مع العالم الخارجي، جعلها فيما يشبه القوقعة، حتى أن ردود فعلها المبكرة كانت غير مصدقة أن هناك ما يستحق أن تشرح أو أن تتحرك من أجله، ولذلك فإن رئيس وزرائها رفض لقاء السفراء العرب، وإذا به الآن يبحث عن أي وسيلة يمكن أن تساعد في وقف التصعيد والتداعيات، لكن بعد فوات الأوان، ومن دون أن يتنازل عن موقفه الأساسي الذي ساهم مساهمة مباشرة في إشعال الأزمة وتضخيمها•

القصة لها سوابق، تذكرون خبر ’’نيوزويك’’ عن تدنيس القرآن الكريم لإذلال السجناء الإسلاميين في معسكر غوانتانامو، وما أثاره من تظاهرات صاخبة ودامية أدت إلى سقوط عدد كبير من القتلى في باكستان وأفغانستان• اضطرت المجلة إلى ’’سحب’’ الخبر من دون أن تعلن صراحة أنه غير صحيح، لسبب بسيط أنه صحيح لكن انعكاساته السيئة على الإدارة الأميركية جعلت ’’المصدر’’ الذي أكده يتراجع عن تأكيده••• تذكرون أيضاً المخرج الهولندي تيوفان فوغ، الذي قتله المغربي محمد بويري بسبب تلاعبه ’’الفني’’ بآيات قرآنية في فيلم انطباعي عن المرأة• كان هذا الحدث معبراً عن ’’صدام حضاري’’ لا شك فيه، وبدا مقتل المخرج بمثابة ’’عقوبة’’ كافية، إذ أن التداعيات الخارجية ظلت محدودة، لكن مؤسسات الجالية الإسلامية في هولندا دفعت الثمن في مختلف أنحاء البلد متعرضة لأعمال انتقامية• وليس مستبعداً أن تتكرر في الدنمارك إذا انتقلت ردود الفعل إلى العنف والتخريب، كما حصل مع السفارات الدنماركية والنرويجية والفرنسية في دمشق•

لا شك أن هذا النوع من الأزمات قابل للاستغلال، سواء باستخدامه كإسقاط على مشاكل داخلية لا علاقة لها بالسبب الأساسي، فالتظاهرات تبدأ باستنكار الرسوم المسيئة للرسول ولا تلبث أن تتطور في اتجاه آخر• لكن أخطر ما تعكسه هو مناخ الكراهية الكامن كنتيجة طبيعية لمنظومة الإجراءات والسياسات التي انبعثت في إطار الحرب على الإرهاب• فتلك الرسوم لم تأتِ من فراغ، وإنما عبرت بوضوح عن بعض ما يعتمل في النفوس• والغربيون الذين يرون أن هناك من يستخدم الإسلام لـ’’الاعتداء عليهم وقتلهم’’ ليسوا جميعاً مؤهلين للتوقف والتمييز وضبط النفس• ثم إن الإسكندنافيين تميزوا عن سائر الغربيين بمفاهيم خاصة للحرية وللتعاطي مع الجنس والمخدرات، وكذلك مع الدين• فلا حدود لهذه الحرية ولا محرمات، حتى غدت كأنها أبرز مقدسات المجتمع، من دون أن يعني ذلك أنها تحسن دائماً التعامل مع مقدسات الآخرين•

لعل هذا التقديس الدوغمائي لـ’’حرية التعبير’’ هو ما أعجز الدنماركيين عن فهم ما يجري بسبب مجرد رسوم كاريكاتورية! هذا لا يعني طبعاً أن صحافيي ’’يلاندز بوستن’’ ساذجون لا يدرون ماذا يفعلون، لكنهم قدروا أن الأمر سيبقى في حدود الغضب، ثم إنهم وجدوا فوائد في الإثارة كما وجد زملاؤهم النرويجيون والفرنسيون والأردنيون وغيرهم••• وما دفع هذه المواجهة بين المحرمات الإسلامية وما سمي ’’حرية التعبير’’ إلى حد المأزق• الجانب العربي طالب بمعاقبة المذنبين في الصحيفة، وهو ما لا تستطيعه الحكومة الدنماركية حتى لو افترضنا أنها تقبل به، وهي لا يمكن أن تقبله في أي حال• وهكذا انتظم الاصطفاف غرباً كأن المسلمين افتعلوا المشكلة بهدف الحد من حرية التعبير، فيما انتقل المأزق إلى الشارع الذي باشر حملة لمقاطعة الدنمارك تجارياً بعدما رأى أن هناك دولاً سحبت سفراءها من كوبنهاجن•

الأكيد أن فشل رئيس الوزراء الدنماركي انديرس فوغ راسموسن في الاعتراف بوجود مشكلة وفي معالجتها بحسن السياسة، أدى إلى تحولها تحدياً بين الشعوب• فالمقاطعة للبضائع الدنماركية قد لا تتوسع ويصعب أن تدوم، لكن الغباء السياسي زرع الأزمة في النفوس وكأنه يستدعي واحداً من ’’المتطرفين’’ للقيام بعمل أرعن سيؤدي بالضرورة إلى نتائج أسوأ وأكبر من هذه الأزمة• وعندئذ قد يرفع التحدي كل حرمة واحترام للمقدسات، وتشتعل حرب يتراشق أطرافها بالرسوم الكاريكاتورية، لكن هناك من سينتهز هذه الحرب لمآرب أخرى• عالم ما بعد 11 سبتمبر بالغ الحساسية ولا يحتمل اللعب بنار المحرمات الدينية، خصوصاً أن المحرمات الدنيوية والإنسانية تعرضت للكثير من الإهانات•