علي يوسف

بالكاد كان يمر ذكر الدول الإسكندنافية على بال الشارع في العالم العربي والإسلامي. فباستثناء احتضان النرويج لاتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" وقتل الكونت برنادوت السويدي في القدس على أيدي العصابات الصهيونية سنة1948، ارتبط اسم تلك الدول في ذاكرتنا بشركات الألبان الدانمركية والهولندية(والتي تذكرنا بعجزنا حتى في الصناعات الزراعية والتي يفترض أن تكون على سوية عالية في بلادنا)، وبأجهزة نوكيا وأريكسون الخلوية، وبلاعبي وفرق كرة القدم.

والمهتم فقط هو من يعرف أن السويد كانت مسرحاً لعملية تهجير منظمة إليها بحق مسيحيي الشمال السوري والعراقي، مقابل المسرح الألماني المخصص للأكراد.

الدول الإسكندنافية من أعلى الدول في العالم من ناحية دخل الفرد، وهي من أكثر الدول تقديسا لحرية الفرد، ويندر ما نسمع فيها عن مشاكل اقتصادية أو اجتماعية.

وبالرغم من أن لا مبرر على الإطلاق لقيام أية جهة كانت بالإساءة إلى أي رمز عالمي، وضرورة التعامل بحذر واحترام شديد مع العقائد التي لا تتعارض مع تكافؤ البشر أخلاقيا و اجتماعيا(ومنها الإسلام ونبيه محمد). فإن اختلاف الثقافات وطرائق التفكير جعل من نشر صور مهينة للرسول الكريم محمد في صحيفة يولاندس بوستن الدانمركية أمرا دافعا لحملة استنكار عنيفة في العالم الإسلامي كان أشدها(حتى كتابة هذه السطور) ما جرى في بيروت ودمشق من إحراق سفارات وقنصليات(وهو ما يتعارض مع فكر الرسول نفسه الذي أوصى بصيانة حياة وحفظ أمن رسل الدول).

وضمن حالة الاستنكار كانت الدعوة إلى مقاطعة المنتجات الدانمركية أمرا موافقا لمزاج الشارع المحتقن أساسا من الظلم الغربي له. فالانحياز الأمريكي الكامل لدولة العصابات الصهيونية، واحتلال العراق والتعامل معه من قبل القوات المحتلة بطريقة أدنى من قروسطية، واستنكار الغرب لنتائج العملية الديمقراطية السلمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعامي هذا الغرب عن ترسانة الأسلحة النووية "الإسرائيلية" مقابل هجومه العارم على المشروع النووي الإيراني(بالرغم من تأكيدات وضمانات إيران أنه مشروع سلمي)، والطريقة العنيفة التي تعاملت بها الحكومة الفرنسية مع انتفاضة أبناء الضواحي المسلمين. كل ذلك وغيره أنتج أن هذا الشارع جاهز لأية معركة مع أية جهة من هذا الغرب.

الشارع المسلم يعتقد أن الغرب كلٌّ متجانس، لذلك يرسخ بذهنه أن هذا الغرب قد عاقب غارودي وفوريسون وغيرهم من مراجعو التاريخ الجدد لأنهم تجرؤوا على رفض الصورة الغربية عن حجم المحرقة. وهو يعلم أن من أهان القرآن في غوانتانامو وأبو غريب بتلويثه بالبول، ومن هدّد بحرق مكة(مركز العبادة في الإسلام) هو من هذا الغرب. كما أنه يعتقد أن اليهود ما كانوا ليتجرّؤوا على التهديد بتدمير المسجد الأقصى(ثالث المواقع الإسلامية أهميةً) لولا دعم الغرب الأمريكي اللامحدود ل"إسرائيل"، أضف إلى ذلك صمت الغرب المطبق أمام انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها روسيا أمام مطالب الشيشان بالاستقلال.......

الشارع المسلم يرى أن هذا الغرب يتعامل معه كإنسان درجة ثانية، لذلك ليس غريبا أن ينقاد هذا الشارع لأية معركة معه قد تكون مختلقة ومصنوعة سابقا، لتأكيد نظرية المحافظين الجدد في صدام الحضارات، وتأكيد الصورة النمطية التي تقدمها الدوائر اليهودية عنه لتبرير تصرفات العصابات الصهيونية في فلسطين.

مظاهرة بيروت نتج عنها اعتداء على كنيسة، وفي مظاهرة دمشق اعتدت امرأتان منقبتان على امرأة سافرة، وفي تركيا اعتدي على كاهن كاثوليكي. وبالمقابل قامت صحف أوروبية في دول متعددة بإعادة نشر الصور المسيئة بشكل يبدو كحالة تضامن مع تلك الصحيفة، وبالرغم من أن حالات الاعتداء فردية ومستهجنة من الشارع المسلم نفسه، ومن أن الصحف التي أعادت نشر الصور هي معدودة، إلا أن أكثر الناس سعادة بذلك يفترض أن يكون صموئيل هنتنغتون ليؤكد نظريته بالتصادم الحضاري بين الغرب المسيحي والشرق المسلم.

يقع على عاتق القوى الحية في المجتمعات ذات الطابع الإسلامي ترسيخ فكرة وحدة الحياة في المجتمع بكافة تنوعاته وأطيافه واختلافاته الدينية والفكرية لمنع مخططات المحافظين الجدد من المرور إلى مجتمعاتهم.

أما المثقفين الإسلاميين فبقدر ما عليهم من مهمة امتصاص الصدمة وخلق حوار فعال وحقيقي مع نظراء غربيين بقصد توضيح خصوصية العقل الإسلامي(تجاه نظرته إلى رموزه ومقدساته)، كذلك من الجميل تقديم مشروع بديل لصدام الحضارات، من ضمن مكوناته المشروع الإسلامي القائم على التفاعل بين الشعوب والذي تجسده الآية القرآنية(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ اتقاكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير)\الحجرات-13\، ولا ننسى أن المنجزات الحضارية التي قامت خلال الدولة الإسلامية ساهمت بها جميع أطياف تلك الدولة من مسلمين وغيرهم، ولدينا من الأمثلة الكثير.

كما أنه من المفيد قراءة رسالة السيد كارستن يوسته رئيس تحرير صحيفة يولاندس بوستن التي يقدم فيها اعتذاره لمسلمي الدانمرك والعالم، واستنكاره واستنكار الصحيفة لأية خطوة تستهدف النيل من أديان أو قوميات أو شعوب معينة، ويوضح أن ما حصل هو سوء تفاهم ناتج عن اختلاف الثقافات وأنهم في الصحيفة يعملون على إزالته من خلال الحوار مع مسلمي الدانمرك.

بالحوار الحضاري بين الشعوب تبنى جسور التفاهم، ويزال الخلل، وعندها لن تبقى أكمة الدانمرك(أو أية أكمة أخرى محتملة) تخفي وراءها أي مشروع عدائي صدامي يقابله مشروع عدائي صدامي مضاد، وعدا ذلك ما على العالم إلا أن ينتظر الخراب الذي لن يرحم أحداً.