ما جرى في العاصمة اللبنانية بيروت، وتحديداً في الاشرفية ذات الغالبية السكانية المسيحية، يوم الاحد الماضي من شغب وأعمال عنف طالت ممتلكات خاصة وعامة ومقرات ديبلوماسية لم يكن بريئاً على الاطلاق، او بالأحرى لم يكن عفوياًً. ولا يعني ذلك ان نيات الداعين الى التظاهرة الاستنكارية لرسوم اساءت الى الاسلام ورسول المسلمين في الاعلام الدانماركي والذين تولوا تنظيمها كانت سيئة وانه كانت لهم اهداف منها تختلف كثيرا عن الاهداف المعلنة وتمس في الصميم الوطن اللبناني وصيغة عيشه المشترك التي دفع اللبنانيون دماً تحديداً على مدى 15 سنة من الحروب العسكرية و15 سنة اقوى من الحروب السياسية وعلى مدى ثلاثة عقود من التدخل الخارجي في شؤونهم بغية تجديد ايمانهم بها والتزامهم اياها دستوراً وحيداً لوطنهم.

وقد برهن هؤلاء عن صدق نياتهم برفضهم بل باستنكارهم ما حصل اثناء التظاهرة وبمبادرة رجال دين اجلاء الى التحرك علنا في الشارع بغية ضبط المتوترين من المتظاهرين والمدسوسين، وما اكثرهم. كما برهنت عن الامر نفسه القيادات الاسلامية السياسية التي بادرت، وفي مقدمها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وكثيرون غيرهما واتخذت مواقف واضحة وضعت الكثير من الأمور في نصابها وخفّضت الكثير من المرارة التي شعر بها من اعتبرهم قسم من المتظاهرين دانماركيين وربما لجمت ردود افعال كان يمكن ان تقود البلاد الى هاوية الفتن من جديد.

اما عدم البراءة او عدم العفوية المشار اليهما اعلاه فيظهران من الاهداف غير المعلنة التي يمكن الانسان العادي، كما الخبراء والمحللين ان يكتشفوها، وفي مقدم هذه الاهداف اثنان. الاول، سياسي هو توجيه ضربة نهائية وقاصمة لمجموعة 14 آذار او لتحالف 14 آذار، وذلك بعد فشل الضربة الاولى التي وجهت اليها وأدت الى انفصال "التيار الوطني الحر" عنها، وذلك بعد استغلال نقاط الضعف الكثيرة الموجودة عند بعض اركان التحالف كما عند بعض اركان التيار. وضربة كهذه تعني فض الشراكة الوطنية التي قامت بين مسلمي 14 آذار، وفي مقدمهم السنّة والدروز، ومسيحييه، ودفع كل المسيحيين اللبنانيين اما الى خط آخر او خيار آخر ، وإما الى الاصطدام مع الشريك السابق في السياسة وفي الشارع الامر الذي يعيد خلط كل الاوضاع في لبنان ويعطي المتضررين من الوضع الذي نشأ بعد 14 آذار الماضي بعض امل في استعادة الامجاد السابقة.

اما الهدف الثاني فعملاني وهو ضرب التحرك الشعبي الكبير الذي يعتزم تحالف 14 آذار القيام في 14 الجاري لمناسبة مرور سنة على استشهاد الرئيس رفيق الحريري والذي كان اول من اعلن عنه وفي اجواء من التحدي قبل اسابيع الزعيم الدرزي الابرز النائب وليد جنبلاط. والضرب يعني الايحاء للناس والمواطنين العاديين ان استعمال الشارع من جديد لن يمر على خير كما حصل في شتاء العام الماضي 2005 ، وان احدا لن يكون في مقدوره ضبط التجاوزات وتحول التظاهر شغبا واعمال عنف. ويعني ايضاً دفع المسيحيين على وجه العموم الى عدم الاشتراك في تحرك 14 شباط خوفا من مضاعفات ميدانية ومن تكرار اجتياح "الحشود الحليفة" مناطقهم اثناء توجهها الى مكان التحرك، مثلما حصل الاحد الماضي. ويعني اخيرا توظيف عدد من المتوترين والموتورين و"الطابور الخامس" وتكليفهم الحركشة بالتحرك لتحويله شيئاً آخر.

من هي الجهات غير الرئيسية وغير العفوية التي حرفت التظاهرة الاستنكارية عن مسارها الاحد الماضي؟

تحالف 14 آذار سارع الى اتهام سوريا و"حلفائها" اللبنانيين بذلك، واعتبر اتهامه هذا سياسيا باعتبار ان هناك مواجهة شرسة بينه وبينها ، سياسية وغير سياسية في آن واحد. والركن الاساسي السابق في التحالف نفسه سارع الى نفي هذا الاتهام، وإن على نحو غير مباشر ، عندما اشار في معرض انتقاده الشغب والفتن والتخريب التي تسببت فيها الى "الاتهامات الجاهزة" وقبل اكتمال أي تحقيق او بالاحرى قبل بدء أي تحقيق.

والاثنان قد يكونان على حق. اما الركن الاساسي في تحالف 8 آذار فاستنكر ما حصل لكنه استنكر كذلك اقحام سوريا فيه. ومهمتنا هنا ليست نفي التهمة عن سوريا، او الصاقها بها. فسوريا تخوض معركة في لبنان اسبابها متنوعة واهدافها معروفة، يدعمها فيها بعض الحلفاء من اللبنانيين. واللبنانيون الاطراف يخوضون معها معركة استكمال استقلال بلادهم وسيادتها وحريتها. والفريقان صارا، شاءا ذلك أم ابيا ، جزءا من معركة اكبر اقليمية – دولية يدفع عند انتهائها الضعفاء أي الادوات، اثمانها. ولبنان ليس من الاقوياء على حد علمنا، على الاقل حتى الآن، رغم عنتريات ابنائه على تنوعهم.

والمهم لفت اللبنانيين الذين شاهدوا أمس، وبأم العين، سرعة امكان الانزلاق الى الفوضى والفتنة في بلادهم الى أن تفرقهم وتشرذمهم سيبقيهم اداة للخارج، صديقاً كان أم شقيقاً أم عدواً. وستبقى بلادهم بل وطنهم، ساحة لصراعات هؤلاء وثمناً لتوافقهم. وانطلاقا من ذلك لا بد من جذب انتباه اللبنانيين الى امور عدة ، ودعوتهم الى عدم تجاهلها والتحوط لها، وإن حاولت جرهم اليها قيادات لا تهتم الا بمصالحها وإن على حساب مصالح الوطن وجهات تعتبر ان مصالح الوطن تتأمن عندما تتأمن مصالحها هي وإن على حساب جهات اخرى شريكة في هذا الوطن. وأبرز هذه الامور دفع اللبنانيين الى التركيز على الفئويات وليس على العام والوطني. فبعض الزعامات المسيحية العريقة يعمل انطلاقا من مقولة تحالف الاقليات الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية الذي وحده يحميها. وهذا العمل يسيء الى اللبنانيين الذين كلهم اقليات كما يسيء الى الدولة او الدول التي تدعو مثل هذه الزعامات الى التحالف معها طلبا للحماية.

فهذه الدول، او بالاحرى انظمتها، ليست اقلوية بل قومية ولا طائفية استنادا الى وصفها لنفسها ووصف بعض الخارج لها. وبعض القيادات الاسلامية يحاول اقناع المسيحيين بفض التحالف مع السنة بعدما أظهروا الأحد الماضي وجههم الحقيقي. وتلاقي هذه الدعوة صدى عند قيادات مسيحية معينة.

في اختصار نجح لبنان قبل يومين في اجتياز "قطوع" كبير وخطير. وما كان ذلك ممكنا الا بحكمة ابنائه مسيحيين ومسلمين او معظمهم. ولكن لا احد يضمن عدم تجدد هذا "القطوع"، وإن بوسائل اخرى. فالدولة لا تزال غير قائمة بسبب الانقسام الحاد داخلها، والمؤسسات العسكرية والامنية لا تزال عاجزة عن التصدي الفاعل لأي اخلال بالامن، او عن التحوط لأي محاولة اخلال بسبب الانقسامات السياسية والولاءات المتنوعة والاختراقات الكثيرة من داخلية وخارجية. والمواجهة الاقليمية الدولية في اوجها – ولبنان ساحتها المثالية – وأي اجتياح آخر لمنطقة مسيحية كما حصل الاحد الماضي لن يمنع ابناءها من رد الفعل ومن تجاوز مشاعر الاحباط و"الهزيمة" القديمة.

والى الذين يقولون انهم لا يستطيعون لأنهم لا يملكون السلاح والارادة، نقول ان الظروف الاقليمية والدولية المحيطة بلبنان قد توفّر لهم ما ينقصهم في هذين المجالين، علما اننا نعتقد ان ذلك انتحار جديد، لكن مسؤولية حصوله لا سمح الله لن يتحملها المسيحيون وحدهم، بل المسلمون والاشقاء العرب على تنوعهم وفي مقدمهم سوريا.