لا شك أنها أيام حزينة في تاريخ شعب فلسطين والأمة.. هي أيام حزينة لأنها تشهد تعرض بنيان ثوابت قضية فلسطين لزلزلة جديدة. ولقد نتجت هذه الزلزلة عن قيام قيادة حركة مؤثرة أخرى من حركات العمل السياسي الفلسطيني بالخروج من بنيان الثوابت لتدخل بنيان تسوية أوسلو الذي يراد له أن يكون بديلاً عن بنيان الثوابت، والذي وضع أسسه ورفع قواعده وحدّد درجة علو سقفه النفوذ الصهيوني الأمريكي. ولعل أول ما يستحضره المراقب ذلك التناظر بين هذه الأيام الحزينة وأيام حزينة أخرى سبقتها منذ ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً، حيث شهدت تلك الأيام أيضاً قيام قيادة حركة من أهم حركات التحرير في العالم هي حركة فتح - بقيادة أبي عمار - بالقيام بذات الأمر.

لقد أراد النفوذ الصهيوني الأمريكي لكل دعامة من دعامات بنيان أوسلو أن تكون شاهداً على تغييب ثابت من ثوابت قضية فلسطين. وكانت أهم دعائم بنيان أوسلو ما يلي:

أولاً: الاعتراف واقعاً وقانوناً بأحقية المستلب الصهيوني في أرض فلسطين، حيث كان يراد من هذه الدعامة أن تكون شاهداً على تغييب الثابت القائل بأنّ التجمع الصهيوني تجمع استلابي اغتصابي ولابد من إخراجه من حيث أخرج شعب فلسطين.

ثانياً: تكريس السيطرة الصهيونية على كامل تراب فلسطين، حيث كان يراد من هذه الدعامة أن تكون شاهداً على تغييب الثابت القائل بوجوب تحرير أرض فلسطين كاملة.

ثالثاً: تكريس الاستلاب الصهيوني للقدس، حيث كان يراد من هذه الدعامة أن تكون شاهداً على تغييب الثابت القائل بحتمية التمسك بكامل القدس.

رابعاً: قصر حق المواطنة والهوية الفلسطينية على فئة محدودة من شعب فلسطين، حيث كان يراد من هذه الدعامة أن تكون شاهداً على تغييب الثابت القائل بقداسة حق العودة ورفض توطين اللاجئين بالخارج.

خامساً: إدانة المقاومة، حيث كان يراد من هذه الدعامة أن تكون شاهداً على تغييب الثابت القائل بأنّ مقاومة وجهاد شعب فلسطين وأمته في مواجهة الاحتلال يشكلان مسلكاً مشروعاً بل وواجباً للوصول إلى التحرير.

سادساً: جعل سلطة التمثيل الفلسطيني سلطة إدارية لا سياسية تدير بعض الشؤون الإدارية لفئة محدودة من شعب فلسطين، حيث كان يراد من هذه الدعامة أن تكون شاهداً على تغييب الثابت القائل بحق شعب فلسطين في تقرير مصيره السياسي وتأسيس أجهزة دولة متكاملة الأبنية السياسية تدير مختلف شؤونه.

فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشد التناظر بين حالتي دخول قيادتي الحركتين في بنيان أوسلو. بل إنّ الجوهر واحد رغم تنوّع المظهر، وإنّ المضمون واحد رغم اختلاف الشكل.

فأولاً، ثمة وحدة في الجوهر وتنوّع في المظهر فيما يتصل بأسلوب الدخول إلى بنيان أوسلو. فقيادة فتح دخلت بنيان أوسلو بلسان المقال قبل أن تدخله بلسان الحال، أما قيادة حماس فدخلته بلسان الحال أولاً. بعبارة أخرى؛ قيادة فتح أعلنت أولاً قبولها الرسمي لتسوية أوسلو ثم قامت بممارسة استحقاقات أوسلو من خلال العمل في مؤسسات السلطة التي انبثقت عن أوسلو، معلنة قبولها الواقعي لذلك. أما قيادة حماس فقد شرعت أولاً في ممارسة استحقاقات أوسلو من خلال العمل في أهم مؤسسات بنيان أوسلو، وهو المجلس التشريعي، معلنة قبولها الواقعي والقانوني للإطار الأوسلوي.

وثانياً؛ ثمة وحدة في الجوهر وتنوع في المظهر فيما يتصل بحقيقة الباعث السياسي الذي حدا بقيادة كل من الحركتين إلى قبول تسوية أوسلو. فبعيداً عن الذرائع؛ أقدمت قيادة فتح على الانخراط في تسوية أوسلو لإنقاذ شرعيتها المتداعية. فقد قبلت قيادة فتح تسوية أوسلو بعد أن أضحت غير قادرة على ممارسة أعمال عسكرية ضد الاحتلال بعد نفيها إلى تونس وبعد إخراج قواتها من لبنان إلى بقاع بعيدة نسبياً عن أرض فلسطين، وبعد أن فقدت معظم شرعيتها السياسية إذ كانت مهددة بالاستبعاد الكامل من الساحة السياسية خاصة بعد قيام النفوذ الأمريكي بتحفيز قيادات جديدة للبروز خلال مؤتمر مدريد.

كذلك الأمر بالنسبة لقيادة حركة حماس، فقد دخلت بنيان أوسلو بعد أن ضعف ذراعها العسكري خاصة في ضوء الضربات التي تعرضت لها، وكذلك بعد أن بدأت شرعيتها السياسية تتهدد نتيجة عدة عوامل منها استمرار نفي عدد من قياداتها للخارج، ومنها صعود نجم عدد من قيادات فتح الشابة المنافسة في غزة والضفة ممن كان لديهم دعم مالي نوعي مكنهم من الاستحواذ على تأييد متصاعد على الساحة السياسية الداخلية.

وثالثاً؛ ثمة وحدة في الجوهر وتنوع في المظهر فيما يتصل بمدى التأثير الأمريكي خلال مراحل ما قبل إعلان دخول بنيان أوسلو. فقيادة فتح دخلت في حوار بعضه سري وبعضه علني مع أجهزة أمريكية قبيل إعلان موقفها القابل لتسوية أوسلو. كذلك دخلت قيادة حماس في حوار بعضه سري وبعضه علني مع أجهزة أمريكية قبيل إعلان موقفها الانخراطي في مؤسسات أوسلو.

ورابعاً؛ ثمة وحدة في الجوهر وتنوع في المظهر فيما يتصل بمحاولات التطويع الذي مارسه النفوذ الصهيوني الأمريكي على كل من الفريقين من أجل قبول تسوية أوسلو. فمن ناحية التطويع العسكري، ففي السنوات السابقة مباشرة على قبول قيادة فتح الانخراط في تسوية أوسلو قامت الأجهزة الصهيونية باغتيال عدد من قيادات الصف الأول لحركة فتح.

وقد حصل ذات الأمر مع قيادة حركة حماس في الفترة السابقة مباشرة على قبولها الدخول في المجلس التشريعي الأوسلوي، حيث قامت الأجهزة الصهيونية بتصفية عدد من قيادات الصف الأول لحركة حماس. أما من ناحية التطويع الإعلامي؛ ففي المراحل الأولى من قبول قيادة حركة فتح الدخول في إطار أوسلو، كان الشرط الأساسي الذي اشترطه النفوذ الأمريكي الصهيوني على قيادة فتح مزدوجاً وهو أن تعلن رسمياً وعلى الملأ نبذ الإرهاب بما يعني إدانتها للمقاومة، وأن تقوم بشطب النصوص التي تشير إلى غاية إزالة الاحتلال الصهيوني الموجودة في ميثاق منظمة التحرير بما يعني الاعتراف بشرعية الاحتلال. وها هو ذات الأمر يحصل مع قيادة حركة حماس خلال المراحل الأولى من قبولها الدخول في أهم مؤسسات أوسلو، حيث بدأ النفوذ الصهيوني الأمريكي في عملية فرض ذلك الشرط المزدوج عليها.

وخامساً؛ ثمة وحدة في الجوهر وتنوع في المظهر فيما يتصل بالذرائع والمسوغات التي رددها الفريقان من أجل تمرير دخولهم بنيان أوسلو. فقيادة فتح اختارت ذريعة ضرورة وضع قدم داخل أرض فلسطين، وعدم الاقتصار على المقاومة من الخارج. أما قيادة حماس فقد اختارت ذريعة ضرورة مواجهة فساد السلطة الفلسطينية.

هذه بعض أوجه وحدة جوهر دخول كل من قيادة فتح وقيادة حماس بنيان أوسلو. ولا شك أنّ تعاقب قيادتي الحركتين في الإعلان نهائياً عن اتخاذ اتفاقات أوسلو إطاراً للتسوية قد أدى بالبعض أن يظن أنّ بنيان الثوابت الفلسطينية قد تصدع، وأنه من المحتمل أن يكون رأب ذلك الصدع شاقاً. غير أنّ رؤية تاريخية لمسار مواجهة أمتنا للهجمة الصهيونية الاستلابية ومواجهة القوى التي تدعم تلك الهجمة تؤكد صلابة ورسوخ بنيان ثوابت قضية فلسطين سواء على المستوى الوطني أو على مستوى الأمة، كما تؤكد أنّ مسار التفاعلات لا يلبث أن يشهد ميلاداً جديداً لموجات مقاومة أخرى لفئات لم يستبد بها الإرهاق النفسي السياسي ولم تستبد بها الرغبة في الهيمنة السلطوية وتؤمن بضرورة الاستمرار في رفع كلفة الاحتلال الاستلابي وتعمل على أن تعيد إلى بنيان ثوابت قضية فلسطين بريقه، ولا يبهرها علو بنيان أوسلو لأنها تعلم أنه مؤسس على شفا جرف هار ولن يلبث أن ينهار عما قريب.