بدأت أزمة الرسوم الكرتونية الدنماركية في سبتمبر الماضي، بدأت بنقاشات دبلوماسية في كوبنهاغن، ثم اصبحت مثل كرة الثلج تتنامى يوميا، حتى تجاوزت قدرة الحكومات على الضبط والادارة، وربما تصبح في القريب العاجل، اذا ما استمرت على هذه الوتيرة، خارج سيطرة من يتقدمها الآن من رموز واسماء، وآخرهم الشيخ القرضاوي، الذي خرج على شاشة الجزيرة قبل بضعة ايام مطالبا الجمهور بالانضابط والالتزام.

قبل أن نكمل، ما من شك أن عرض الصور الكرتونية، التي تسخر من شخصية بمكانة وهالة ومقام الرسول، شخصية هي الرمز الديني الأول لأكثر من مليار ومائتي مليون انسان على وجه الارض، وبهذه الطريقة، يعتبر جرحا صريحا للشعور الديني، خصوصا ونحن نعيش حالة من الاستقطاب الديني والحضاري، شئنا أم ابينا منذ 11 سبتمبر 2001، وعليه، فتصرف الصحيفة الدنماركية «جيلاندز بوسطن» بنشر هذه الرسوم، لا ريب انه مثير لمشاعر الحنق والغضب، لدى أي مسلم (طبيعي).

السؤال الذي يطرح كثيرا منذ انفجار السد الاسلامي: هل تعتبر ردة فعل المسلمين معقولة؟ أم أن فيها حدة ومبالغة خرجت عن المقبول، والى اين يمكن ان تنتهي الامور؟!

شخصيا، أعتقد أن من حق الفرد او المجموعات أن تعبر عن رفضها لتصرف معين عبر مقاطعة اقتصادية، او إرسال رسائل الاحتجاج، مثل البريد الاليكتروني، وتنظيم المهرجانات، وطبع الملصقات، وكل وسائل الاحتجاج السلمي، خصوصا اذا كان الفعل المرفوض الآتي من الطرف الآخر، هو فعل كلامي او تعبير غير عنيف بالمعني العسكري. ولكن هنا لنكن دقيقين وواضحين، في مثل هذه الحالات الجماعية والحملات الشعبية العارمة، لا أحد يحفل بالتفاصيل، وتدوس الاقدام المزدحمة بعض الابرياء، وبسبب الصخب، يصبح من المتعذر الاصغاء الى أي صوت آخر، ليس من نفس المستوى والطبقة... من هنا نفهم كيف خرجت قوائم باسماء السلع والمنتجات الدانماركية المطلوب مقاطعتها، ومن ضمنها منتجات لا علاقة لها بالدنمارك!

مع الهرولة والزحمة تسقط الامتعة، ويُداس الماشون بروية. وشيء أكثر ضررا من هذا: من لا عمل له في النظام والهدوء، يصبح له عمل في الفوضى والزحام، ولذلك نجد ان التجمعات الضخمة تكثر فيها حوادث النشل، وتروج سوق السلع البخسة، وتقوم سوق استثنائية اسمها «سوق الزحمة»!

أعتقد أنه حصل شيء يقارب هذا في هذه الأزمة، حيث وجدنا دولا وساسة يصعب أن نصدق أنهم يشعرون فعلا بحرارة وغيرة حقيقية على الاسلام، فيقوم صاحب الكتاب الاخضر بسحب سفيره، ويقوم رمز حزب البعث بلبس عمامة أمير المؤمنين، تاركا الرعاع يحرقون سفارات اجنبية في بلده بحجة الغيرة على الاسلام ... ونجد من يسعى لأصوات الناخبين، بعدما اخفق في الانتخابات الاولى، يرتدي عباءة الشيخ، ويتملق مشاعر الناس الدينية، معلنا انه سيجند امواله في الحملة ضد الدنمارك..ونجد من كان متهما بضعف مشاعره الدينية، وهزال انتمائه للاسلام، بسبب بعض ارائه حول التعليم والمرأة... يسارع فيزايد على «المشايخ»!

وهذه هي مأساتنا دوما، أنصاف المنتمين، أو الذين لديهم عقدة شك في موقفهم، يتحينون أية فرصة لإثبات العكس، ومن ثم إذا لاحت فرصة ملائمة «يهتبلونها»، ويبدون ردود فعل غير طبيعية ومضخمة، تتجاوز المطلوب منهم!

لكن دعونا نعود الى مسألتنا الاساسية: هل يجوز أن يتم، تحت ستار حرية التعبير، السخرية من رموز دينية؟ حتى في اوروبا والغرب؟

هذه محل نقاش وجدل الآن بين المسلمين والغرب، فبعض الغربيين يقول اننا نمارس حرية التعبير، وهي جزء من ثقافتنا، وحتى المسيح، الذي هو نبي المسيحية لم يسلم من المقاربات المستفزة، على شكل رسوم او افلام سينما او كتابات.. وليس فيلم «آخر اغراءت المسيح» ببعيد عن البال. والمسلمون، أو بعضهم، يقول لا، لا نقبل ذلك، فلا يجوز تحت دعوى حرية الرأي، ان تهينوننا عبر السخرية من نبينا العظيم، بل وفي الدنمارك نفسها لديكم قوانين تمنع السخرية من الرموز الدينية المقدسة، (طبقا للمادة الثانية رقم 140 فقرة 266- ب من قانون الجنايات الدنماركي، فإن القانون يمنع أي شخص يتعرض بالسخرية او الإساءة (الازدراء) الى رمز من رموز الاديان الموجودة في المجتمع الدنماركي ويجرم من يقدم على ذلك)، ثم أنكم لا تقبلون التشكيك بمسألة المحرقة اليهودية، فلماذا تسمحون بالسخرية من نبينا...

وهكذا هناك نقاش قانوني، يحيل الى نقاش فكري وفلسفي وقيمي في هذه المسألة. لكن المسألة لن تنحسم بهذه الطريقة القانونية.

ففي بدايات الأزمة في سبتمبر الماضي، اجتمعت السفيرة المصرية منى عمر مع السفراء العرب، وقالت انها نسقت مع بقية السفراء، وبعثوا خطابا استنكاريا موحدا لرئيس الحكومة، لكنها تعلق على ذلك بقولها: «في الحقيقة كنت أخشى أن ينتهي الأمر باعتذار.. لقد كان أفضل شيء فعله رئيس الوزراء الدنماركي هو عدم اعتذاره»! وتضيف في تصريحاتها لصحيفة «الوطن» السعودية: «الخارجية المصرية لعبت دوراً كبيراً في هذا الصدد». لكن السفيرة نُقلت لجنوب افريقيا، الامر الذي وجده نواب الاخوان المسلمين في البرلمان ذريعة للطعن في الحكومة، لأنها عاقبت السفيرة على موقفها، وانضمت الى موقف الاخوان شخصيات، مثل مصطفى بكري...

بعض الروايات الدبلوماسية تقول ان هذه الهبة من الحكومة المصرية، ومتابعة هذه القضية بجلد، كان آتيا ضمن صراع المصداقية الدينية المتبادل بين الاخوان والحكومة، والبعض، من داخل الدبلوماسية المصرية، يرى ان الحكومة كافأت السفيرة عمر ولم تعاقبها بنقلها الى جنوب افريقيا، حيث مددت لها الخدمة... روايات!

الجدل لن ينتهي، ولكن المأمول أن يظل في اطار الكلام والسلم، وكذلك الاحتجاج، وألا يتحول الموقف الى مركب لأجندة أخرى، تريد أن تمرر عبر هذه المواقف الشعبية، طلبات اخرى لها، وأن تستثمر قوة الزخم هذه باتجاهات أخرى، ولعل مثال احراق بيروت وبوادر الفتنة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين هناك، مقدمة لذلك، فمعروف من هو الذي يسعى لاشعال الوضع في لبنان!

وهناك من حاول توجيه هذه العاطفة والهبة الى اتجاه تصفية الحساب مع خصومه الفكريين او السياسيين.

خذوا هذا المثال فقط: يذكر الكاتب السعودي علي الموسى أنه حضر صلاة الجمعة الماضية في السعودية، وتحدث الخطيب عن أزمة الرسوم الدنماركية، وساق فضائل وصفات النبي الكريم ودافع عنه، وهذا كله شيء طبيعي، ولكن يذكر الموسى أنه ما أن انتهت الخطبة، حتى تقدم رجل والتقط المايكرفون وقال: «لقد استمعنا إلى خطبة فضيلة الشيخ الرائعة، وأريد أن أعلق عليها لبضع دقائق». وتابع: «لقد ركز الشيخ الفاضل، خطيب الجمعة، على الإساءات التي جاءت من صحف الدنمارك. على أن الأمر ليس بمستغرب من أعدائنا الحاقدين من اليهود والصليبيين.

لكن الغريب أن هذه الإساءات إلى الإسلام وأهله لا تقتصر على صحف الدنمارك أو غيرها من صحف الغرب، بل إنها تكون أشد غرابة حين تكون من أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بلساننا، وبعضهم للأسف الشديد يكتبون في صحف تصدر من هذا البلد. صحف تهزأ بالثوابت التي قام عليها هذا الدين، وتستهزئ بعلمائه ورموزه، وتهاجم المؤسسات الإسلامية، وتسوق التهم إلى المناشط الخيرية، وعلى رأسها المراكز الصيفية». «الوطن» السعودية 5 فبراير الحالي. وهكذا حاول واعظنا هذا ان يجعل خصومه من «المسلمين»، مثل رسام الكاركتير الدنماركي: كلهم اعداء للاسلام!

وآخرون لا يريدون ان تنتهي المشكلة، لأنهم يكسبون باستمرارها وتصاعدها أكثر، ولا يريدون خمود الأزمة، كما هي رغبة العقلاء من كل الاطراف، فهذا أحدهم وللأسف، فلقبه هو (مدير مركز التنوير) يقول إنه: «لا بد من وقف الحوار مع الفاتيكان» (موقع الاسلام اليوم 26: يناير 2006) ولا أدري: اذا لم يكن هذا هو وقت الحوار مع الفاتيكان، فمتى يكون اذن؟! وشخص آخر، وهو صحوي معروف، يؤكد في مقال له بعنوان (هب اعتذروا! فماذا بعد؟) بأنه لا ينفع الاعتذار، حتى ولو كان رسميا وكاملا، اذا كان نابعا فقط من أجل ضغط الحصار الاقتصادي، بل يجب ان يكون نابعا من احساس داخلي بـ«استشعار» بالذنب، أي أنه يضع شرطا «باطنيا»، ثم يضيف: «مع أنه لا يُرضي المسلم ولا يشفي صدره أقل من هلاك ذلك الجاني المتعدي».

وهنا المشكلة، أنه في مثل هذه الاحوال، تُستنزف الصور العفوية التي بدرت من الناس، كما في هذه الازمة باستثمارات سياسية وحركية صغيرة، ومزايدات من قبل بعض المتملقين والقفازين.

وإلا فمن ينازع في أحقية المسلمين، أو أي مجتمع آخر، بأن يمارسوا جهدا سلميا من تلقاء انفسهم، يتمثل بالمقاطعة الشعبية، ثورة لهويتهم وصيانة لكرامتهم الثقافية، هذا من حقهم، وليس لأحد ان يجبر احدا على شراء منتج معين، ولكن الخشية مما ذكرناه سالفا.

والخشية ايضا ممن يحرص على تعميم سوق الحرب والمواجهة وطمس كل جهد للمشاركة والمقاربة... سواء في العالم الاسلامي او في العالم الغربي. لماذا «يفرح» البعض بشيوع اجواء المواجهة الدينية او صدام الحضارات، لماذا يشعرون بالانتشاء في مثل هذه الاحوال؟!

لقد قصّرت امانة منظمة المؤتمر الاسلامي، وزايد البعض من أجل «حلب» ضرع العاطفة الدينية الصادقة، والجميع لم يكونوا ببراءة وعفوية الجماهير..

هذا ما يحصل للاسف كل مرة. والآن، وبعد ان وصلت الامور الى اقصى غايتها، ألم يحن وقت العقلاء من أجل ان يطفئوا هذا الحريق... العقلاء عندنا وعند الغرب ...نرجو ذلك.