صبحي غندور

هل يمكن فصل التطوّرات الجارية في كل من لبنان وسوريا وفلسطين عن بعضها البعض؟ وهل يمكن عزل مسألة التسوية مع إسرائيل عن تداعيات الأحداث لدى كل طرف من الأطراف الثلاثة؟

فقد نجحت إسرائيل في عقد معاهدات ثنائيّة مع كل من مصر والأردن، لكنّها فشلت على الجبهات الأخرى: اللبنانيّة والسوريّة والفلسطينيّة، في إقامة تسويات توقف حال الصراع المسلّح معها. إسرائيل وقّعت اتّفاقيّات مع قيادة منظّمة التحرير في أوسلو نصّت على الاعتراف بإسرائيل ووقف أي عمل مسلّح ضدّها. لكن ذلك لم يمنع من ظهور حركة حماس وغيرها من المنظّمات الّتي استمرّت في الكفاح المسلّح ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وإسرائيل استطاعت ضمان الهدوء على الجبهة السوريّة في الجولان بفعل اتفاقيّات دوليّة، لكنّها لم تضمن عدم مساندة دمشق لمنظّمات فلسطينيّة وللمقاومة اللبنانيّة.

وإسرائيل راهنت على غزوها للبنان عام 1982 واحتلالها لأول عاصمة عربيّة بيروت، ثمَّ على خروج قيادة منظّمة التحرير ومقاتليها من أراضيه، ثمَّ على إخراج القوات السوريّة من بيروت وجبل لبنان، ثمَّ على توقيع اتفاق 17 أيّار/مايو عام 1983، وهي كلّها ضمانات أمنيّة وسياسيّة لها بإمكان عزل المسار اللبناني عن سوريا والمسألة الفلسطينيّة. فإذا بتطوّرات تعصف بكل هذه النتائج، وإذا بلبنان يشهد ولادة مقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي أجبرته على الانسحاب دون قيد أو شرط أو معاهدة.

إذن، سوريا، لبنان وفلسطين، ثلاثة أطراف فاعلة بالصراع مع إسرائيل لم تحسم بعد هذا الصراع. وقد كانت معاً هذه الأطراف في محنة الحرب اللبنانيّة منذ العام 1975، وهي تشترك أيضاً في علاقة جيّدة مع إيران بشكل أو بآخر.

فما هو القاسم المشترك للأحداث الجارية على ساحة كل من هذه الأطراف الثلاثة؟

أعتقد أنَّ الرؤية الأميركيّة الإسرائيليّة للمرحلة القادمة تقوم على جملة فرضيّات مترابطة في وقائعها ومتّصلة بنتائجها. وفي هذه الرؤية أنَّ كل طرف من الأطراف الثلاثة أمامه الآن خيار السير منفرداً بدون الآخرين، أو تحمّل عواقب الضغوطات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة.

فسوريا أجبرت على سحب قواتها من لبنان، وهي مطالبة أميركيّاً ودوليّاً بوقف أي تدخّل في الشأن اللبناني، وبإقامة علاقات دبلوماسيّة بعد ترسيم للحدود بين البلدين. أمّا لبنان فيتمّ دفعه يوماً بعد يوم إلى قرارات حاسمة تتعلّق بسلاح المخيّمات الفلسطينيّة وبإنهاء قضيّة مزارع شبعا ونشر الجيش اللبناني على كل الحدود مع إسرائيل، إضافة إلى استمرار تصاعد حالة العداء السياسي مع دمشق.

على الصعيد الفلسطيني، فإنَّ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعيّة سيجعلها في موقع الحاكم المضطر للالتزام بالاتفاقات الّتي وقّعتها السلطة الفلسطينيّة، وإلى اعتماد المفاوضات مع إسرائيل لمعالجة القضايا الحياتيّة الفلسطينيّة في الحد الأدنى. وستكون حركة حماس في حال تولّيها مسؤوليّة السلطة التنفيذيّة أكثر انشداداً للأمور الفلسطينيّة الداخليّة وأقل تفاعلاً مع التطوّرات على السّاحتين السوريّة واللبنانيّة.

إنَّ إدارة الرئيس الأميركي بوش تنتهج منذ تولّيها الحكم في مطلع العام 2001 ، نهجاً مختلفاً عمّا سبقها من إدارات في كيفيّة التعامل مع الملف الفلسطيني الّذي شهد أوج الاهتمام الأميركي به في حقبة الرئيس كلينتون. فإدارة بوش تحدّثت عن الدولة الفلسطينيّة لكن بدون أي خطوات عمليّة فاعلة لتحقيقها، وبتجنّب الانغماس الأميركي في هذا الملف.

لكن إدارة بوش واصلت الحرص على مبادئ السياسة الأميركيّة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي والّتي تقوم على مسارات ثنائيّة بين إسرائيل والأطراف العربيّة وعلى إقامة معاهدات وتسويات منفردة تحقّق التطبيع مع إسرائيل ووقف كل الأعمال المسلّحة ضدّها، وبغض النظر عن مصير المسارات الأخرى.

وقد حدث ذلك مع مصر والأردن وقيادة منظّمة التحرير وفشل مع لبنان وتعثّرت المفاوضات من أجله مع سوريا خلال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد.

يبدو الآن أنَّ الإدارة الأميركيّة تجد مصلحة كبيرة في توظيف الأوضاع المستجدّة في لبنان وفلسطين من أجل توفير الظروف المناسبة لعزل المسارات اللبنانيّة والسوريّة والفلسطينيّة عن بعضها البعض، ولمحاولة دفع كل طرف إلى اتفاقيّات ثنائيّة تنهي كل أشكال العمل المسلّح ضدّ إسرائيل، وبالتالي تحويل المنظّمات العسكريّة اللبنانيّة والفلسطينيّة إلى قوى سياسيّة محليّة فقط، ممّا يحرم سوريا من أي أوراق ضغط كانت تتحكّم بها منذ العام 1975 .

وبدون شك، فإنَّ هذه المراهنة الأميركيّة الإسرائيليّة المشتركة هي ليست فقط إضعافاً لموقف التفاوض السوري، بل أيضاً، وفي ظل الضغوط الدوليّة الجارية على سوريا، تشكّل عنصراً مهمّاً في تقليص النفوذ الإيراني بمنطقة المشرق العربي وفي عزله عن ملفّات الصراع مع إسرائيل.

فالسياسة الأميركيّة الراهنة تقوم على شموليّة القضايا في إستراتجيتها بالمنطقة، وعلى فصل المسارات في خطوات التنفيذ لهذه الإستراتيجيّة. فإضعاف وعزل إيران، ينعكس سلباً على سوريا والقوى اللبنانيّة والفلسطينيّة المتعاونة معها، والعكس صحيح أيضاً.

وواقع الحال الآن، أنَّ إيران تعاني من جملة ضغوط دوليّة وهي مهدّدة بعقوبات اقتصاديّة وبإجراءات في مجلس الأمن. كذلك الآن بالنسبة لسوريا المهدّدة بسيف لجنة التحقيق الدوليّة وبقرارات جماعيّة من مجلس الأمن. بينما الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة تنتظر احتمالات المقاطعة ووقف الدعم إذا لم تتجاوب "حماس" مع الضغوط الأميركيّة الأوروبيّة الإسرائيليّة. أمّا الوضع اللبناني، فهو مرهون بنتائج الضغوطات على سوريا والفلسطينيين، وفي داخله عناصر التأزّم والتفجير تتفاعل يوماً بعد يوم، وهو أيضاً في حال من العقوبات الاقتصادية غير المباشرة الّتي تربط المساعدات بمصير قرار مجلس الأمن 1559، وبمدى التجاوب مع الضغوط الأميركيّة الفرنسيّة لنزع سلاح حزب الله والمخيّمات الفلسطينيّة ونشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل. وهي خطوات أمنيّة تضغط من أجلها واشنطن بمعزل عن المسارين السوري والفلسطيني، وكتمهيد لاتفاق لبناني إسرائيلي ينهي الصراع مع إسرائيل على الجبهة اللبنانيّة.

من غزّة إلى طهران، شريط متعدّد الأحداث والقضايا لكنّه ممسك في طرفه من قبل الإدارة الأميركيّة الّتي استفادت من أخطاء أسلوبها في التعاطي مع مجلس الأمن والدول الدائمة العضويّة فيه خلال التعامل مع الملف العراقي. فالموقف الأميركي الآن يعتمد على تعاون وتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين تجاه إيران وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، كما تعمل واشنطن على ربط سياستها بشرعيّة دوليّة من خلال قرارات لمجلس الأمن أو بصيغة تعاون أميركي أوروبي حتّى تجاه القضايا الّتي كانت موضع خلاف بالسابق.

تفريق الأطراف الإقليميّة، وتجميع القوى الدوليّة، هو الآن أساس المنهج الأميركي في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، وفي ظل غياب أي شكل فعّال من التضامن العربي.

المؤسف أنَّ هذه السياسة الأميركيّة، يرافقها أيضاً تمزيق داخلي لكل طرف، وهذا التمزيق الداخلي مسؤول عنه أولاً هبوط الولاء الوطني وصعود الهويّات الفئويّة وتفاعلات أخطاء قوى الحكم والمعارضة.