دائما ما تلجأ دمشق الى دور اوروبي فاعل في مواجهة اشد الحملات الاميركية على سوريا. إلا ان ما حصل الاسبوع الماضي من احراق لسفارات اوروبية, في ظل التظاهرات التي تحوّلت الى اعمال شغب احتجاجا على الرسوم الدانمركية المهينة للنبي محمد والاسلام, اسهم في دفع الموقف الاوروبي ليكون اكثر تشددا من الضغوط الاميركية على دمشق.

وحريق السفارة الدانمركية في دمشق الذي امتدّ لهيبه فيما بعد الى بيروت وطهران, وضع سوريا في عين الاعصار الدولي المندّد بحرق السفارات, خصوصا بعد «الربط الخبيث» الذي اعتمده البعض وفي مقدمتهم الادارة الاميركية, بين الحرائق الثلاثة, وتوجيه الاتهامات لحلف طهران ­ دمشق المتجدد بالوقوف وراء هذه الاعمال التخريبية.

ما شهدته دمشق الاسبوع الماضي, احتجاجاً على الرسوم المسيئة للدين الإسلامي أمام السفارات الأوروبية, شكل مفاجأة كبيرة للسوريين بمختلف أطيافهم, وحتى لكثير ممن شاركوا في التظاهر. المفاجأة لم تكن فقط من القيام بإحراق السفارتين الدانمركية والنروجية وخروج الأمور عن نطاق السيطرة, بل من أسلوب التظاهر الذي أخذ شكل مواجهات تنتقل بين أحياء متباعدة من أبي رمانة الى المزة لتعود الى المهاجرين حيث السفارة الفرنسية ولتدخل هناك في عملية كر وفر استمرت ساعات عدة, مما أثار الكثير من التساؤلات والشكوك حول مدى مسؤولية السلطات عما حدث, وحول حقيقة وجود من استغل الحدث ليحرفه عن مساره السلمي الى العنف والتخريب.

المشهد يذكّرنا بأجواء الغضب الشعبي الذي اجتاح دمشق إثر عملية ثعلب الصحراء التي شنتها أميركا على العراق العام 1998, حين هاجم شباب من المتظاهرين السفارة الأميركية, وقاموا بإنزال العلم وإحراقه, في حين قام فريق آخر بمهاجمة منزل السفير البريطاني وكذلك المركز الثقافي وقاموا بتخريب محتوياتهما.
لكن تداعيات التظاهر مساء السبت, كانت أكثر عنفاً وأقل ضبطاً.

وقد أكد شاهد عيان لـ«الكفاح العربي», ان المتظاهرين حين وصلوا الى مقر السفارة الدانمركية لم يكن هناك عدد كاف من رجال الأمن, بل أنهم كانوا يتعاملون باسترخاء مطمئنين إلى أن الأمور لن تتجاوز إحراق العلم. كما أكد الشاهد أن شباناً سبقوا المتظاهرين إلى المكان يرتدون ملابس مدنية, ويعصبون رؤوسهم بشرائط خضراء, ويحمسون الحشود بالقرع على الطبول, سرعان ما تغلغلوا بين الجموع وراحوا يحرضون على إحراق السفارة, ثم اقتحموا الاسوار ودخلوا المبنى بعدما عجزت القوات الموجودة عن ردعهم, فجرى إطلاق قنابل مسيلة للدموع لتفريقهم دون جدوى, وتمكن احد المتظاهرين من التقاط قنبلة ألقاها في غرفة الحرس الزجاجية الموجودة عند مدخل السفارة, وكان فيها مجندون يطلقون القنابل الغازية, ثم أغلق المتظاهرون النافذة على الجنود وسدوا الباب من الخارج بمقعد حديد, في وقت تدفق فيه الجموع الى المبنى باعتلاء الأسوار والأشجار القريبة والقفز من فوقها إلى الداخل واقتحموا المبنى وأضرموا النار فيه وكسروا محتوياته.

شاهدٌ آخر شكك في صحة هذه الرواية مؤكداً أن بعض عناصر الأمن تساهل في منع الاقتحام في البداية, مشيراً الى تكرار ما حدث في السفارة النروجية حيث احرق مبنى من ثلاثة طوابق, وتمت الأمور بسرعة وكأنما هي عملية تم التخطيط لها من قبل جهات ما, وأن الأمر لم يكن عفوياً, وثمة من استغل التظاهرة للقيام بهذه الأعمال التخريبية.

مراسل محطة إخبارية, ذكر من جانبه أن جموع المتظاهرين الذين اتجهوا نحو السفارة النروجية في المزة فيلات قاموا بقطع الطريق, وأدوا صلاتهم في الشارع قبل اقتحام السفارة وإضرام النار فيها, ثم وبعد مواجهات مع قوات حفظ النظام, توجهت مجموعة أخرى تستقل «فانات» نقل داخلي وترفع لافتات وأعلاماً خضراء نحو السفارة الفرنسية في العفيف, وكانت الساعة تقارب السادسة والنصف مساء, وقد سبقهم إلى هناك متظاهرون بينهم شباب ورجال مسنون ونساء وأطفال, غادروا المكان بعد اقل من ربع ساعة, ثم عاد فريق منهم, تم تفريقهم بالقنابل المسيلة للدموع, وفشل أحد الشباب باقتحام السفارة بهدف إنزال العلم.

وعندما وصل فريق المتظاهرين بـ«الفانات» من جهة المزة, كانت التعزيزات الأمنية من قوات حفظ النظام قد أغلقت الشوارع المؤدية الى السفارة, لتبدأ عمليات كر وفر استمرت مدة ساعتين, تمت فيها مواجهة المتظاهرين بخراطيم المياه والقنابل الغازية, أدت الى وفاة صاحب محل ألبسة أطفال في الجسر الأبيض يعاني الربو. تصاعد الوضع على نحو خطر جداً كما وصفه أحد رجال الأمن الموجودين في المنطقة, بحيث اضطر وزير الأوقاف زياد الدين الأيوبي لمخاطبة المتظاهرين عبر مكبرات صوت سيارات الشرطة, طالباً منهم الهدوء والعودة الى المنازل, وبأن غضبهم تجاوز الحدود, بعدما اثبتوا حبهم للرسول, وأن النبي محمد ما كان ليرضى بهذا السلوك التخريبي, والتأكيد أن عدونا هو إسرائيل وليس الأوروبيين.

أما أصحاب المحال وسكان المنطقة والعابرون ممن كانوا في الشارع, فقد أخذت غالبيتهم الحمية الوطنية والدينية, وراحوا يشجعون على التظاهر وطرد سفراء الدول التي أتاحت الإساءة لأمة الإسلام, وهناك من كان يقول إن انتهاك كرامة المسلمين بلغت حداً لم يعد ممكناً معه الصمت والتخاذل ولا بد من الانتقام, ويصرخ آخر أننا نعبر عن رأينا كما يعبرون هم عن رأيهم, ومنهم من كان يقول بوجوب حرق السفارة الأميركية أولاً, لأنها أول من انتهك المقدسات في النجف والفلوجة وغوانتانامو.

ردود الفعل
في أول رد فعل رسمي أعرب المفتي العام للجمهورية أحمد بدر الدين حسون عن أسفه وقال: «إننا نشعر الآن بالحزن لما قام به بعض الأشخاص الذين دفعتهم العواطف الى مرحلة اساؤوا فيها الى حوارنا مع الشعب الدانمركي والنروجي» وكشف أن السفير الدانمركي جاءه قبل ثلاثة ايام بكتاب رسمي من رئيس وزراء الدانمرك يعتذر فيه ويأسف على ما أقدمت عليه الصحيفة الدانمركية». وأضاف حسون «إننا قبلنا هذا التأسف واتفقنا على ان تنشر الصحيفة مقالات لبعض المسلمين في الدانمارك تتحدث فيها عن صفات النبي الكريم حتى لا نصل الى مرحلة من الصدام تؤدي الى فقد صداقات بعض أصدقائنا في أوروبا الذين يؤيدون الحقوق العربية».

وقد أعربت وزارة الخارجية, بدورها, عن أسفها لأعمال العنف التي رافقت تظاهرات الاحتجاج وإلحاق أضرار مادية ببعض السفارات في دمشق. وقال مصدر رسمي في الوزارة: «رغم التفهم لمشاعر الغضب الشعبي الكبير للإساءات التي استهدفت الرسول الكريم, فإنه من غير الجائز مخالفة قواعد القانون والنظام في القطر». مؤكداً «التزام سوريا بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بضمان امن السفارات وأعضائها, وانه تم اتخاذ المزيد من إجراءات الحماية والحراسة على البعثات الدبلوماسية, كما لا صحة على الإطلاق عن وجود أي تهديدات تستهدف رعايا بعض الدول في سوريا».

اثر الحدث, بدأت حملة انتقادات قوية لسوريا اتهمتها بعدم حمايتها السفارات التي تعرضت للهجوم, فاتصلت وزارة الخارجية الأميركية بالسفير السوري في واشنطن وأبلغته «تحميل بلاده مسؤولية التظاهرات العنيفة, لأنها لا تحصل في تلك البلاد من دون معرفة الحكومة أو دعمها» وفي بيان للناطق باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان قال «ان إخفاق الحكومة السورية في توفير الحماية للبعثات الدبلوماسية, في وجه التحذيرات من حصول عنف مخطط له, هو أمر لا يمكن تبريره». وأعلن وقوف بلاده مع الدانمرك وحلفائها الأوروبيين في «معارضة الأعمال المشينة التي حصلت في سوريا». وأغلقت السفارة الأميركية أبوابها كإجراء وقائي, وكذلك فعلت السفارة الفرنسية والمدرسة والمركز الثقافي التابعين لها ضمن إجراءات وتعزيزات أمنية مشددة, كما نددت دول الاتحاد الأوروبي, بما جرى في دمشق وقال رؤساء ألمانيا وايطاليا والبرتغال والمجر والنمسا وفنلندا ولاتفيا ان «المواجهات والتهديدات مرفوضة أياً تكن الظروف». واحتجت الدانمرك والسويد والتشيلي والنروج على إحراق مقارها في دمشق وهددت بإحالة شكواها على مجلس الأمن ودعت رعاياها الى مغادرة سوريا.

انقلاب المشهد
وهكذا انقلب الموقف وتحولت سوريا من بلد كغيره من الدول الإسلامية يطالب الدانمرك بالاعتذار الى بلد مطالب بالاعتذار والتعويض عن الأضرار المادية الناجمة عن «إساءة كبيرة وليست عابرة», كما وصفها رجل الدين والنائب في مجلس الشعب السوري محمد حبش وقال: «نحن الآن أصبحنا المطالبين بالاعتذار وهو وضع كنا في غنى عنه» ودعا الى «محاسبة الذين أضرموا النار».

محاولات تهدئة غضب الشارع التي قام بها رجال الدين والسلطة, نجحت الى حد ما, بعد إدراك الجميع خطورة التصعيد بعد أحداث الأشرفية في بيروت في اليوم التالي, وأيضاً إعلان الحكومة السورية عن اشتباك قوات مكافحة الإرهاب السورية يوم الأحد 5 شباط €فبراير€ مع مجموعة إرهابية تكفيرية مسلحة في بلدة كفر بطنا بريف دمشق, أسفر عن مقتل زعيمها واعتقال اثنين من مرافقيه, وتمت مصادرة أسلحة ومتفجرات وذخائر, بالإضافة الى وثائق تخطط للقيام بأعمال إرهابية»

ورغم ذلك قامت جهات مجهولة بتوجيه دعوة في دمشق الى التظاهر مجدداً أمام السفارة الفرنسية في منطقة العفيف المهاجرين بعد يومين من التظاهرة الأولى, ثم ألغيت الدعوة لدى قيام السلطات السورية بزرع العشرات من قوات حفظ النظام الى جانب فرق من القوات الخاصة في محيط السفارة الفرنسية, في تأهب غير مسبوق, دفع أصحاب المحال التجارية الى إغلاق متاجرهم خشية تكرار المواجهات, في وقت اشتد فيه الجدل عبر الانترنت ومقاهي المثقفين وأمكنة تجمع الشباب في تفسير ما حدث, ومسؤولية السلطات عنه, وانقسم الشارع السوري بين مؤيد لرد الاعتبار الى العرب والإسلام, بأي وسيلة كانت, وتلقين الغرب والأميركيين درساً في الرفض, وبين فريق آخر يرفض العنف والتخريب كوسيلة للاحتجاج, لأنه يتنافى مع القيم الإسلامية في حماية الضيف
اختلاف وجهات النظر حول طرق الاحتجاج, والموقف من الغرب يبدو محض كلام نظري تبرع به النخب السياسية والدينية والثقافية, لأن الواقع على الأرض تحركه معطيات أخرى لها علاقة بالاحتقان الناجم عن تلازم التهييج الإعلامي وإثارة العواطف على خلفية ما تتعرض له المنطقة من عوامل تفتيت وتعرية, في ظل حكومات ضعيفة, ولعل أخطر ما في الأمر إصرار جميع الأطراف الداخلة في اللعبة الدولية الكبرى على استخدام ورقة الشعوب دون حساب دقيق للنتائج.