حياة الحويك عطية/الدستور

من البعيد القريب يلوح الوجه الذي يمنح لوجهك ما بحث عنه كلكامش ، ويمنح لحياتك ما تبحث عنه ورقة الورد في ندى الفجر . وجه اولئك الذين ، واحدا كانوا او اكثر ، جاوروا القلب تسعة اشهر ، لينتقلوا الى سكناه مدى العمر . سكنى قد تهدأ احيانا فتغفل قليلا عن وجودهم ، حتى اذا تحركوا كما الالهة الشابة في الاينوما ايليش ، احسست ان ذاك القلب قادر فعلا ان ينشطر ليكون الارض والسماء كما جسد نعامة .

في غمرة دوامات تتواتر دوامات ، تفرخ دوامات من قلق، من توتر ، من هموم وطن محتل في طرفه ذا وطرفه ذاك ، منكوب في كل اطرافه بدون استثناء ، وهموم سياقات مخططات لا تهدف في النهاية الى دمارنا ودمار مستقبل اولادنا ، وقوى مضادة تتوضا بدمائها وتتيمم بالامها وصبرها لافشال تلك المخططات ، في غمرة كل ذلك تأتيك مناسبة قد تبدو بالغة الخصوصية بحيث لا يحق لكاتب ان يشغل بها حيزه في الصحيفة اليومية ، لكنك اذا تعيشها متأملا تجد انه لم يعد من خصوصيات في هذا الزمن الصعب الذي اخترقت سهامه ريش مخداتنا ، واغطية نومنا .

الليلة عيد ميلاد ابنتي ، ومن عاصمة بعيدة تمطرني بما لا حصر له من متناقض المشاعر والمواقف ، اغمض عيني وارى تدفق الاسئلة . ما الذي تركناه لهذا الجيل ؟ وما الذي يضيفه الى حياتنا؟ انقضاء سنة من العمر ام دخول عام جديد منه ؟ صعود درجة من سلم البقاء والارتقاء ، ام تراجع درجات عليه ؟ ظالم من يظلم هذا الجيل .

وظالم من يقول اننا تركنا له غير الهموم ، لكنه هو الجيل الذي يدفع مهر المقاومة في فلسطين في لبنان وفي العراق . وهو الجيل الذي يطور اداءنا المهني مستفيدا من الثورة التقنية ، وهو الجيل الذي يدخل على قطاعات كثيرة من حياتنا قيمة التخصص ، والاداء المتميز . كام لي فيه اثنان ، وكناشطة مؤمنة بمستقبل الامة لي فيه اعداد كبيرة ممن قربهم مني التدريس او العلاقات الاسرية او الاجتماعية ، او العمل العام او حتى المراقبة البعيدة .

اعرف ان فيه منسوب كبير من التفاهة والفساد كما في كل جيل ، واعرف ان فيه ايضا منسوب كبير من جدية وابداع . لا ليس هؤلاء جيل نانسي عجرم واولئك الذين لا احفظ اسماءهم ولا اميز خلقهم ، ليس هؤلاء جيل الامركة الفارغة ، واللسان المعوج حتى ولو على لغة اجنبية معوجة وغير سليمة ، لا ولا جيل الماكدونالدز والكوكاكولا . هو جيل فيه كل هؤلاء كما كان في جيلنا مثلهم ولو باسماء اخرى . ولكن فيه ايضا باقات من وعي جميل ، من مسلك نضالي ليس بالضروري ان ينسخ مسلكنا ليكون صحيحا ، فلربما استطاع ان يصوغ مسلكا وخطابا جديدا يتساوق وروح العصر ويستفيد من السلبيات التي حكمت مرحلتنا وخطابنا واسلوب عملنا .

دون ان يكون في التجديد أي مساس بقيمة القديم وباحترام ما فيه من منجز ايجابي . اقول ذلك من وحي اشارة صغيرة صغيرة ، اذ هاتفت ابنتي لاهنئها بعيد ميلادها ، فوجدتها تخرج للتو من عملها ، وبدلا من ان نتحدث عن العيد ، مضى الحديث الى الحلقة التي تعمل عليها في سلسلة وثائقيات عن فلسطين تعدها لقناة الجزيرة ، خلاله ذكرت لي زميلتها جيفارا البديري ، ومضى بي الفكر الى عشرات الصبايا اللواتي ينصبن بيارق من جد وابداع في ساحات اعلامنا المرئي - المسموع والمكتوب ، دون ان يضيرهن اطلاقا وجود اخريات ممن لا يشبههن.

كثيرات من هؤلاء الشابات المبدعات درسن في الغرب وفي مدارسه ، ولكن ليكتسبن خبرة وتخصصا يقاربن به قضايانا الوطنية بشكل افضل . مقاربة تجمع الحماس الى المعرفة والى التجديد ، تربط ذلك كله بالعصر وبصراعاته ، بطبيعتها وسياقاتها، وتحفظ لنا مكانا على خريطته .