ضيا اسكندر

بعد أن أنهى المحاضرون مداخلاتهم بالندوة المخصصة لبحث "الرواية العربية والتاريخ" فتح رئيس الجلسة باب النقاش والحوار للجمهور. فرفع أحد الحضور يده للإدلاء بدلوه, ويبدو من سيمائه أنه بالعقد الخامس من عمره. وكونه يجلس في الصف الأمامي, فقد كان له الدور الأول بتسجيل اسمه, واستهلّ مداخلته بالتعريف عن نفسه قائلاً:

بادئ ذي بدء, أرجو منكم جميعاً أيها السادة‍! عدم التعليق على ركاكتي اللغوية, فأنا مغترب منذ أكثر من ثلاثين عاماً. أعمل طبيباً في مشافي فيينّا, مختصاً بجراحة البصلة السيسائية. وقد جئت إلى بلدي الحبيب لقضاء إجازتي السنوية فيه وأتمتع بربوعه الجميلة. وقد فضّلْته على كل المواقع والمنتجعات السياحية في العالم. لسنا بهذه السيرة, المهم, صحيح أنني لست مهتماً بالأدب كالرواية والقصة وما شابه ذلك... بسبب ضيق الوقت لديّ, فأنا أعمل ما يقارب الخمس عشرة ساعة يومياً... كما أنني أمين عام مجلس الأطباء العرب في أوروبا. وطبعاً مشاغلي كثيرة جداً.. فأنا لا أرى طفلي الوحيد – بالمناسبة, في أوروبا لا ينجبون أكثر من طفلين ثلاثة كحدّ أقصى... فـ(توني بلير) مثلاً تعرّض لانتقاد شديد في بريطانيا لأنه أنجب الطفل الرابع.. بينما أنتم هنا تنجبون كثيراً بسبب أوقات الفراغ الكثيرة لديكم وبسبب التخلف والجهل والأمية وما شابه ذلك... بالمناسبة, على سيرة الأمية, من المؤكد أنكم لم تحلّوا هذه المشكلة بعد. على كل حال, هذا موضوع آخر يمكن أن نتحدث به لاحقاً إذا أردتم. نعود إلى موضوعنا, كنت أقول.. ماذا كنت أقول؟‍ أه تذكّرت, الحقيقة أنني لا أرى طفلي أكثر من ساعة في اليوم, باستثناء يومي السبت والأحد... حتى أنه في هذين اليومين أقضي جلّ وقتي على الانترنيت للاطلاع على أحدث ما أنتجته التكنولوجيا في عالم الطب, وخاصة في مجال الجراحة العصبية والتي هي اختصاصي كما أسلفت. لسنا بهذه السيرة, المهم, فأنا كعربي, معنيّ بما يجري على ساحة بلادنا العربية من المحيط إلى الخليج. يسوءني ما يسوءكم, ويفرحني ما يفرحكم. فالدم العربي مازال يسري في عروقي, مع أنني حصلت على الجنسية النمساوية منذ يفاعتي, فوالدي – رحمه الله – كان يعمل في النمسا تاجر سيارات, وكان يتمتع بطلّة بهيّة قلّ نظيرها في عالم الجمال, فقد حباه الله من الوسامة والحسن وما شابه ذلك, ما جعل بنت مدير إحدى أكبر شركات صناعة السيارات – والتي هي أمّي الآن – تقع في غرام أبي, وتزوجا وأنجباني. المهم لسنا بهذه السيرة.. أعود إلى نفس موضوع الندوة التي نحن بصددها الآن. فقد لفت انتباهي وسخطي بآنٍ معاً, أن كلاً من السادة المحاضرين كانوا قد بدؤوا مداخلاتهم بتحية: "مساء الخير!!!؟؟؟" ولعمري هذا ما أثار حفيظتي واشمئزازي! أمعقول هذا؟!! مساء الخير؟؟؟! يا إخوان! لدينا تحية نعتز بها أمام الكون وهي "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" فلماذا نقلّد الغرب بكل شيء؟ فعلاً إننا شعب مسلوب حتى العظم...! ولا غرابة أبداً أن تنظر إلينا شعوب الأرض قاطبةً بالاستخفاف والاحتقار وما شابه ذلك.. حتى التحية نقلّدهم بها؟!! يا عيب الشوم! أكاد أجنّ! صدّقوني أن جبيني يندى خجلاً من رؤية بعض العرب وهم يتسكعون في شوارع النمسا حيث أقيم كما أسلفت, بل أستطيع القول في شوارع أوروبا كلها. فأنا بحكم شهرتي الواسعة لدى كافة أنحاء العالم الأوروبي, كثيراً ما تستضيفني جامعاتها كأستاذ زائر, أُلقي فيها محاضرات وأُشارك بمناظرات.. وطبعاً أتجول في الشوارع والمتاحف والحدائق وينظم لي رحلات ترفيهية لقاء ذلك. ناهيك عن الرواتب المغرية التي أتقاضاها وطبعاً بالدولار والآن صارت باليورو, بالمناسبة على سيرة اليورو, أمعقول أن تتحد أوروبا كلها رغم افتقارها للّغة الواحدة والتاريخ والقومية.. إلخ؟!!! ونحن مازلنا نرتع في ظلام الفرقة والخلافات وما شابه ذلك... مع أنه لدينا من القواسم المشتركة التي تجمعنا ما لا يمكن إحصاؤها.. والله يا إخوان! لدينا تراث عظيم بمقدورنا أن نتباهى به أمام جميع أمم الأرض؛ قدّمنا الأبجدية للبشرية.. الديانات السماوية.. الفلاسفة والشعراء والفنانين والعلماء.. لن أعددهم فأنتم أدرى مني بها, فأنا لست ضليعاً بشؤون الأدب كما أسلفت. لسنا بهذه السيرة, المهم, كنت أقول!.. ماذا كنت أقول يا ربّي؟! .. أه تذكّرت, الحقيقة أنني أخجل كثيراً لدى رؤيتي بعض العرب في أوروبا وهم يقلّدون الغرب بطريقة أكلهم وشربهم, بالسير باللباس بقصة الشعر... أوووف! بالله عليكم يا إخوان! ممَّ يشكو القمباز أو الشروال أو منديل الحرير؟! بشرفكم! أليس مريحاً هذا النوع من الألبسة أكثر مما يتحفنا به الإفرنجة من موديلات ما أنزل الله بها من سلطان؟! نصيحة مغترب يا إخوان يعشق وطنه ويتمنى لكم الصحة والسلامة وما شابه ذلك! أقول لكم: كفاكم تخلفاً ومعاناة من عقد النقص الكثيرة حيال الغرب, هذه العقد المتغلغلة في جملتكم العصبية يعني في تلافيف المخ والمخيخ والبصلة السيسائية والشرايين والأوردة المغذية لها! والتي والله وبكسر الهاء, سوف أجتهد من الآن فصاعداً خلال أوقات فراغي القليلة جداً كما أسلفت – لدراسة الخلايا المسؤولة في الدماغ البشري عن التخلف, لأقوم باستئصالها وأخلّصكم منها... وأكون بهذا قد وفّيت نذراً يسيراً مما يستحقه عليّ وطني... آيم سوري - أقصد أنا آسف - صدقوني لا أحب كثرة الكلام أبداً, أصلاً لا وقت لديّ للكلام كما أسلفت. ولكن لي تعليق آخر أرجو أن يتسع صدركم الرحب لـ...

وهنا نفد صبر رئيس الجلسة ونبّهه إلى أنّ الوقت المخصص له قد انتهى... فقام الدكتور معتذراً, وامتشق غليوناً وضعه على زاوية فمه, وغادر القاعة وهو يمسح الجمهور بنظرة متعالية وبكافة الاتجاهات, مشيعاً بنظرات الحضور المندهشة والسئمة.. وقد علتْ همهماتهم المتأففة بينما كان يمرّ في صفوفهم باتجاه باب القاعة خاصة بعد أن لاحظوا أنه كان يرتدي (شورت سياحي لفوق الركبة بحط كف...!) وقد علّق على أذنه اليسرى قرطاً..! وكان شعره مصبوغاً باللون الأخضر... و (مخصّل) بلون برتقالي!