حين يتعلق الأمر بميشال عون وحسن نصر الله، يصير التعاطي الجدّي مع النصوص عملاً غير جديّ. فنحن، هنا، لسنا حيال «نفيين لا يصنعان أمة»، حسب العبارة الشهيرة لجورج نقّاش في 1943، بل حيال نفيين أقصيين وراديكاليين لا يصنعان إلا الحروب. فلا يعدو «التفاهم»، والحال هذه، التسمين الذي يسبق الالتهام، علماً بأن أضراس «السيّد» غير الأسنان الحليبيّة لـ «الجنرال».

فهذا الأخير الذي يقوده الطموح الى رئاسة الجمهوريّة، «يحالف» مشروعاً إقليمياً يصادم الجمهوريّة في أسّ أسسها، فلا يعود منه إلا بمغنم المقعد النيابي في بعبدا – عاليه. وهذا، دع الخطابة جانباً ودع الوعود والآمال المضخّمة أيضاً، التتويج الوحيد الممكن لرصيد نابوليوني حروباً ونفياً!

أما زعيم «حزب الله»، وهو حلقة في محور يضمّ عواصم «الممانعة» وقواها، فيكسر، بعصا «الجنرال»، عزلة ألمّت به قبل عام. وإذا كان انفتاح عون على نصر الله هدية ثمينة للمحور المذكور، فإن انفتاح نصر الله على عون قبلة موت لم يتأخّر الحليف الأميركي في التعبير عن الاستياء منها. وكان لافتاً، بالمعنى هذا، أن زعيم «التيار الوطني الحرّ» سلّف زعيم «حزب الله» مقدّماً ثميناً محسوماً من الرصيد الأميركي، حين رأى أن مخطوفي بيروت، أواسط الثمانينات، «لم يكونوا كلهم سيّاحاً».

هكذا جاءت عاشوراء مناسبة لرفع صوت نصر الله ونبرته ضد جورج بوش وكوندوليزا رايس، ناهيك عن «الأكثريّة الوهميّة»، فيما عون منشغل بمعركة بيار دكّاش.

لكن الأمر ليس مجرد «خدعة» نسجتها «الكوادر» الملتحية ووقعت «الكوادر» الحليقة في حبائلها. فما من شكّ في أن اللقاء الأخير يخاطب بعض الحسابات البسيطة وبعض الحساسيّات الشعبوية. ذاك أن الذين لم يصدّقوا عبارة جورج نقّاش قد يتراءى لهم أن الوطنية المثلى حصيلة لقاء تعادلي بين مَن قاتل إسرائيل ومَن قاتل سورية. ثم أن الاثنين لا يندرجان في بيئة السياسيين التقليديين الممجوجة وهما، تالياً، بمنجاة من تهمة الفساد لبُعد واحدهما عن صناعة القرار، بل عن البلد كله، ولعدم احتياج الثاني الى مصادر دخل محلية.

بيد أن قوّتهما، التي ستستهلك نفسها في قريب عاجل، تنبع أيضاً من التعثّر الذي يعيشه خصومهما. صحيح أن هؤلاء الأخيرين هم الذين يحتلّون الموقع الذي تنبني الوطنية اللبنانية عليه، وهو إياه الموقع الذي يستهدفه أعداء هذه الوطنية وكارهوها. وصحيح، كذلك، أن شرعية 14 آذار (مارس) وتركتها مصدر التأسيس لولادة وطن تعترضه الصعوبات الخارقة. ويبقى، في آخر المطاف، أن الوسط المذكور هو الحاضن للتعدد الطائفي، وهو الذي تُرجم فيه، وانعكس عليه، التحول الضخم الذي عاشه الوعي السنّي المدينيّ في لبنان. غير أن الغياب المزعج والمتعالي لأحد قادتها (سعد الحريري) والمزاجيّة الصارخة، والمتعالية بدورها، لقائدها الآخر (وليد جنبلاط) يواكبان مشكلة أعمق.

فإذا كان الواقع الطائفي للبلد، وضرورة تجسيده في التركيب الحكومي، قد وسما حكومة فؤاد السنيورة بضعف الإنجاز، فإن اللغة التآمرية التي راجت (المندسّون، الأجانب، الأطراف الخارجية...) تشي بإنسداد الآفاق والمراوحة المميتة في المكان نفسه. وهو كلام لا يستبعد وجود المندسّين والأجانب والأطراف الخارجيّة، الا أنه يظهّر التناقضات التي صنع تحالف 14 آذار بعضها وطمس بعضها الآخر (راجع حسام عتياني في «السفير» 7/2 الجاري). وقد جاءت محنة الأشرفيّة تدلّ الى صعوبة الدمج بين طموحات وطنيّة مؤكدة وثقافة وتراكيب طائفية بلا لجام، كما بين مركزية بيروتية وزعم حصري للتمثيل الطائفي العابر للمناطق. وما رأيناه ينفجر بين يدي «تيّار المستقبل» يمكن أن نرى مثيلاً له لدى الطوائف جميعاً في لحظات مشابهة من احتكاك الأوهام بالوقائع أو امتحان رغبات التوحيد الطائفي على تفاوت الواقع، داخل كلٍ من الطوائف، وتعدده.

وفي الحالات جميعاً، يفترض بـ14 شباط (فبراير) أن يقنعنا بأن السياسة اللبنانية لم تعد تقتصر على انتظار نتائج التحقيق الدولي، فيما «السيد» و»الجنرال» يفعلان كل ما يستبق النتائج ويعطّلها.