ربما لأول مرة يدفعني البعض إلى المباشرة في الحديث والكتابة، لأن "اتهامات الرمزية" تبدو أحيانا حقيقية، على الأخص عندما يضطر كاتب افتتاحية "سورية الغد" إلى الاستمرار في الكتابة يوميا، فيفترض ان القراء يتابعون سير المقالات منذ أكثر من عامين.
المشكلة ان الكتابة عن الحداثة تأتي بعد مرحلة من فشل معظم تجاربها في منطقتنا، حيث كان من المفترض أن تؤدي تجارب الديمقراطية بعد الاستقلال، وظهور أحزاب إيديولوجية والمحاولات الاجتماعية الأخرى في تأسيس حياة مدنية جديدة. فما نقصده بالحداثة هي تلك التجربة الإبداعية التي خاضتها بعض الشعوب قبلنا في عصر النهضة الأوروبية ... لأننا لا نملك نموذجا آخر ... ولأننا في "صدمة" الحداثة كنا نواجه أوروبا بما نملكه من تراث ... ويبدو أن التجربة التي سميت بـ"النهضة العربية" كانت تحاول خلق تركيب "وسطي" هروبا من الحداثة، أي كي لا تخوض التجربة الحقيقية في رسم معالم جديدة للمجتمع.

الأمر اليوم اكثر تعقيدا، فإذا كانت التجربة الأوروبية مرت بعصر الأنوار ثم النهضة مستندة إلى عملية الانتقال بالثورة الصناعية، فإن واقع الحال اليوم لا يتيح أيا من هذه الأمور، إضافة إلى أن بنية المجتمع في منطقتنا يختلف نوعيا عما حدث في الغرب الأوروبي.

وحتى نكون اكثر تحديدا فإننا نتناول الحداثة كمفهوم متكامل، فعند استعماله في افتتاحيات سورية الغد فإنه يحاول التخلص من التناقض الحاصل اليوم، فإذا كانت الديمقراطية قيمة حداثية فإنها لا بد أن تترافق بالعلمانية، لأننا لسنا من أوجدنا هذه القيمة وهي كانت متلازمة مع تساوي الحقوق والوجبات داخل سلطة زمنية.
لا أعرف إذا استطعت الخروج من الرمزية ... لكن الحداثة التي نتحدث عنها اليوم في زمن "ما بعد الحداثة" تعني تحول بالمعرفة من التراث باتجاه المعاصرة، والتحرر من سلطة التراث على آلية تفكيرنا لنصبح بالفعل أبناء العصر فنتبنى كل قيميه دون انتقائية.
الحداثة ليست تجربة فكرية بل هي ثقافة اجتماعية تنقل الأفراد من حالة "المجتمع الأبوي"، إلى نظام الدولة الحديث، والتخلص من المرجعيات التقليدية باتجاه "العقل كشرع أعلى" ...

المشكلة أن "الحداثة" تجربة بذاتها ظهرت خارج جغرافيتنا، وكانت قوة وسلطة قاهرة على الشعوب الأدنى منها. فترافق ظهورها مع إبادة شعوب وظهور المستعمرات والحروب القومية ثم الحربين العالميتين، فهي ليست مسيرة من الورود والفرح ... لكنها على الأقل جعلت الإنسان مسؤولا عن مصيره.