قدرنا أن نمضي بلا تردد, حاملين اعباء الزمن الصعب الذي وضع سوريا في قلب العاصفة التي تجتاح المنطقة, والتي مهدت لبعض القوى الخارجية وأزلامها ان تفرض علينا, او تحاول, قيماً وافكاراً ترتد بنا الى الوراء, كي تمنع مجتمعنا من استعادة حيويته وقدرته على التجديد, والمضي في ترجمة خياراته الوطنية التي قطعت شوطاً على طريق النهوض بمختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وفق نموذج وطني, وفكر تجديدي يحاكي المستقبل.
من البديهي ان المشروع الوطني حصّن سوريا في وجه الهجمة الاقليمية والدولية التي كرست الجهد لاختراق جهازنا المناعي, من خلال التهديدات والضغوط والاتهامات الباطلة التي تهدف لحرماننا من جدلية عقلنا ومواجهة الاسئلة التي يطرحها الواقع السياسي والتنموي بشجاعة, ولأن مجتمعنا بمختلف مكوناته وشرائحه, يرتبط حكماً بالهوية الوطنية, فقد واصل مشروع الدولة المرسوم تحقيق خطوات مهمة, سواء على مستوى تحول القيم والافكار الى مؤسسات ومعاملات واجراءات وتشريعات جديدة ووسائل انتاج, او على مستوى ثقافة السلوك العام والفكر الاجتماعي الشامل, اي ثقافة التوازن بين الفكر والعمل, التي تؤدي بالنتيجة الى دفع مسيرة قطار التحديث الذي أبطأ في بعض محطاته.

وبالرغم من كل هذه المؤشرات الايجابية المطمئنة, لا بد من الاقرار بأن سوريا تجتاز مرحلة صعبة ومفصلية, تتطلب جهداً استثنائياً لمعالجة منظومة الفساد في اجهزة الدولة والممارسات الخاطئة التي انتجت شرخاً افقياً بين شريحة المثقفين التي نبتت كالفطر, وبين القوام الاجتماعي الشامل للمواطنين الذين يشكلون البنية الاساسية للمجتمع, ومع ان الدولة حددت رؤية واضحة لمرحلة مختلفة, ووضعت خطة خمسية طموحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية استندت الى إطار عملي ومنهجي وفكري في ادارة التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي, وتمحورت حول تأكيد دور المؤسسات بوصفها بناءً جماعياً, وتعبئة المواطنين وحفزهم للتفاعل مع المشروع الوطني والقيام بواجباتهم والدفاع عن حقوقهم, إلا ان نجاح هذه الجهود مرتبط الى حد بعيد, بتعرية ومحاسبة الفئات التي تجنح في لحظات المد الى السلبية واللامبالاة بأي عمل يتجاوز مصالحها الفئوية الخاصة والضيقة, وتحاول الابقاء على بعض البثور المنتشرة في إنحاء الجسد الاقتصادي الاجتماعي للدولة والمجتمع.

لا نقول جديداً عندما نؤكد ان المجتمع السوري لا يعاني وجعاً في رؤيته للمستقبل, ولا سيما تلك الكفيلة بتوصيف حالنا وتحديد الاخطاء كمقدمة لمعالجتها, انما المشكلة تكمن حقيقة بمن نعتقد انهم في الخندق الواحد, خندق الاصلاح والتحديث والتطوير, وسرعان ما نكتشف انهم يغردون خارج السرب, ويعرقلون كل الجهود المخلصة للنهوض بأداء الدولة والمجتمع, واذا صح التوصيف فإن معظم المناقشات الدائرة اليوم حول المشروع الوطني تكتسب غطاءً شرعياً وقانونياً واخلاقياً وإنسانياً باعتبارها تلامس شرائح المجتمع كافة, لكنها تواجه بمحاولات اختزانها من قبل فئة فاسدة تتستر بالشعارات لكي تربح مساحة جديدة من الوقت لادارة حوارات غير بريئة هدفها اعلان افلاس المشروع.

وعلى الرغم من وجود هذه الحالات في اجهزة الدولة وخارجها, فقد تبلورت على صعيد الممارسة مجموعة من الخيارات التي اعلنت عنها القيادة السياسية, والتي تتيح تنظيم الحياة السياسية على أسس صحيحة وتنافسية, تحكمها الانتخابات الدورية, والاطار الدستوري وعمل المؤسسات, بالاضافة الى معيار الادارة الاقتصادية ذات البعد الاجتماعي في مسار العملية التنموية المساهمة في تقديم الخدمات الاجتماعية الاساسية للمواطنين وتحسين مستوى معيشتهم, والحد من فجوة الثروة والدخل بين مختلف الشرائح الاجتماعية.

قد يرى البعض ان التغيرات الجارية في سوريا أبطأت في بعض محطاتها, إلا ان دراسة وتحليل التغييرات البنيوية التي اثرت في المجتمع خلال العقود الماضية, واستبدال العلاقات التقليدية القائمة بعلاقات حديثة وتمتين النسيج الاجتماعي, تطلب شيئاً من الهدوء النسبي من اجل تجنب الوقوع في الخطأ, وايجاد مناخ ملائم لخلق أطر الحوار الداخلي وتشجيع الانخراط في العمل المدني, وفي توزيع الوظائف والمسؤوليات, وذلك من اجل تقديم صياغات ومفاهيم وآليات ممارسة تكرس بنى مؤسسية مستقرة تكون بديلاً عن الانفراد بالرأي والقرار, وتلتزم بمعايير الكفاية والشفافية والمساءلة, وفصل السلطات, وبالتالي توفير البنية القانونية الحامية لها.

خيارات الاصلاح التي طرحت نفسها وبقوة على القيادة السورية, وتحت ضغط الحاجة الداخلية الملحة, ومواجهة الضغوط الخارجية الشرسة, بدأت على جبهتين, الاولى: الانطلاق من الواقع للتأسيس على ما أنجز في السابق, الثانية: اعتماد تحديث النصوص القانونية وآليات تنفيذها كمدخل للنهوض بقطاعات الدولة المختلفة, والتوجه الى المستقبل بمنطلقات جديدة ومشاريع جديدة, واداء مختلف.

وفي غمرة الآراء المتباينة والدعوات المختلفة لتحديد شكل الاصلاح واهدافه واولوياته, كان لا بد من الاجابة عن الكثير من الاسئلة العالقة, وجاءت الاجابة واضحة, في مقررات المؤتمر القطري العاشر للحزب, الذي رسم ملامح الطريق واكد استكمال مسيرة البناء كي يكون المستقبل امتداداً للحاضر, وذلك من خلال تفعيل التعددية الاقتصادية والسياسية والاعلامية, والبحث عن الحلول الصائبة, والاجراءات السديدة التي تستأصل السلبيات وتعزز الايجابيات, وفق منهج واستراتيجيا وطنية مستمرة, تتبناها مؤسسات قانونية وتعززها مناخات سياسية جديدة, ويحميها توجه يسمح بإعطاء وسائل الاعلام هامشاً اكبر من المرونة والشفافية لتحقيق مشاركة جماهيرية فاعلة, في التصدي للمشكلات القائمة, وتكوين قناعات وجدانية بأهمية الحفاظ على الصالح العام, وتطوير الارث الاخلاقي الجماعي, لاجتثاث جذور الفساد الذي يشكل خطراً حقيقياً ليس فقط على مستقبل الانجازات التي تحققت, بل على المشروع برمته.

وتأسيساً على ما تقدم انتعشت الحوارات على كل المستويات خلال الاشهر القليلة الماضية, واتيح المجال واسعاً امام الاكاديميين والفنيين والخبراء لتحليل الواقع الاقتصادي ­ الاجتماعي ورسم التوجهات, وتحديد المشكلات وحجمها وبؤرها, واختيار الاسلوب الافضل لتجاوزها, وقد تم بالفعل انجاز خطوات مهمة في اصلاح القضاء والمؤسسات الاقتصادية والمالية والتعليمية, و صدر عدد من القوانين والمراسيم التشريعية تتضمن تعديلاً لتشريعات او تغييراً لها بعدما ظهر من خلال تنفيذ هذه التشريعات الكثير من الخلل وأوجه القصور وتم اتخاذ العديد من الاجراءات لتشجيع الاستثمار وتنشيط القطاع الخاص وتمكينه من تعزيز دوره الوطني, ودراسة واقع القطاع الحكومي وتحريره من القيود الادارية والمالية, وتخليصه من المصاعب والعوائق التي تشل فعاليته.
سوريا اليوم تمضي في تجديد نفسها, بالرغم من كل الظروف السياسية الصعبة, والضغوط الخارجية التي تمارس عليها من اجل شل عملية الاصلاح, فالجميع في سوريا ينتظر اليوم حكومة جديدة, تعمل بمعايير مختلفة, وتضطلع مترجمة المشروع الى برامج عمل قابلة للتنفيذ, وذلك من خلال تطوير بنية المؤسسات, وخلق الفكر المؤسساتي الذي يقودنا لتكريس قيم عمل كفيلة بحل المشكلات القائمة والناتجة من غياب المحاسبة, وعدم بسط سلطة القانون, وعدم تحمل المسؤولية عند البعض, كخطوة اولى واساسية نحو إرساء دعائم التقدم والنمو وتجاوز الاخطاء والعثرات.
لا شك ان هناك ملفات عديدة وصعبة بانتظار الحكومة المقبلة. الخيارات مفتوحة لكي يكون التطوير والتحديث, جوهرياً او شكلياً, بالحجم والعمق اللذين سيأخذهما, ومع ان إحداث انقلاب جذري في معادلة التطور, يتطلب الكثير من الجهد والعمل المخلص, إلا ان التفاؤل بالمستقبل طموح مشروع, يتم تأسيسه على الحوار الديمقراطي الهادئ الذي يمكن ان ترسخه المؤسسات الجديدة, والحكومة العتيدة مع كافة شرائح المجتمع وفعالياته للارتقاء بمتطلبات الانسان وتنمية روح المبادرة والابداع عنده, وإتاحة الفرصة امام جميع أبناء الوطن كي يعبروا عن انفسهم ويشاركوا في صناعة القرارات والانجازات, والتصدي بجدارة لكل من يحاول تزييف وجدان الانسان ومشاعره وافكاره من خلال التشكيك بمشروع الدولة النهضوي.