هناك فرق شاسع بين مسؤولية السلاح ومسؤولية الكلمة. وحماس اليوم أمام تحد صعب جدا بل أكثر من صعب. فالتحول المفاجئ من السلاح إلى السياسة، والانتقال من المقاومة إلى الحكم ليس بالأمر الهين كما قد يتوقع البعض.

لقد وصلت حماس إلى السلطة بعد معاناة طويلة وصعبة وكلفتها غاليا بعد أن فقدت خيرة قيادييها ومقاوميها وفنييها، وقد قدمت حماس منذ تأسيسها (بشكل رسمي عام 1988) من التضحيات التي سيسجلها لها التاريخ دون شك في صفحات سجل تاريخ فلسطين كصفحة مشرقة من النضال من أجل الحرية.

ولم يكن ذلك التحدي أيضا سهلا: وهو الوقوف دون سند ودون دعم في وجه جحافل الجيش «الإسرائيلي» ومخابراته المنتشرة في السماء والأرض والبحر .

وتغلغلها من خلال مجموعة من فاقدي الانتماء القومي اندسوا بين شرفاء الفلسطينيين. فلم يقتل عنصر من حماس إلا وكان خلف دمه فلسطيني باع هويته ووطنيته مقابل حفنة من الشيكلات (الإسرائيلية) الرخيصة.

ولم تيأس حماس من أن تجد نفسها وحيدة في معركة غير متكافئة في وجه عدو لا يرحم، ولم ترض بالاستسلام الذي أطلق عليه تحت عناوين عدة عملية السلام واتفاق أوسلو وخارطة الطريق وغيرها من المسميات التي لم يجن من ورائها الفلسطينيون غير الحصار والاستهداف والقتل والاستهانة بمصيرهم.

كانت حماس تصارع من أجل إنقاذ القضية الفلسطينية لكيلا تشطب من كتب التاريخ والحفاظ عليها قبل خنقها بأيدي أصحابها قبل أعدائها.. فكانت ترى الفساد منتشرا في كل مكان، والتنازلات تلو التنازلات.

والقدس الشريف الذي يضيق عليه الحصار، والأراضي التي تستولي عليها السلطات الإسرائيلية دون وجه حق، وآلاف الهكتارات من أشجار الزيتون الفلسطيني تقتلع من جذورها.

وآلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية دون محاكمة والمستوطنات التي تبنى على أراضي الفلسطينيين أمام أعينهم وأمام أعين عدسات الفضائيات العالمية دون أن يحرك أحد ساكنا. في الوقت الذي اختفت فيه مليارات الدولارات التي وصلت إلى السلطة الفلسطينية لدعم الشعب الفلسطيني من خزينتها.

وعلى حماس الآن دور المحرر والمحقق والمدقق والمحارب والمقاتل والسياسي والدبلوماسي والمنظم والشرطي والمؤتمن على حقوق الفلسطينيين وعلى مصير قضيتهم..

وفي انتظار حماس اليوم قضايا عدة متراكمة منذ عهد السلطة السابقة بدءاً من توفير الدعم المالي الدولي مرورا بإصلاح البنية التحتية للأراضي الفلسطينية من الماء والكهرباء والطرقات وانتهاء بإزالة الاحتلال.

ولا أحد يشك في قدرة هؤلاء الرجال الذين صقلتهم المقاومة على تحمل المسؤولية. وهي مهمة يعترف الجميع بأنها صعبة للغاية.

ولكن الخوف الذي بدأ ينتاب العديدين ممن تابعوا عن قرب سير ونتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية ومنذ أن تحول قادة حماس من قادة مقاتلين من الدرجة الأولى إلى قادة لسلطة سياسية مبتدئة، هذا الخوف ينحصر في مدى قدرتهم على الاستمرار في التمسك بتلك المبادئ الأساسية التي أوصلتهم إلى السلطة.

والخوف كل الخوف من أن يتأقلم هؤلاء المحاربون شيئا فشيئا مع الجو السياسي العام السائد في المنطقة فيضعوا المناورات السياسية في الدرجة الأولى.

وتوضع المقاومة العسكرية جانبا لتصبح مع الوقت جزءا من ماضي حماس، تلك المقاومة التي يعود إليها الفضل ـ مع مقاومة حزب الله في جنوب لبنان ـ في هز مضاجع المجتمع الصهيوني ليل نهار ورفع معنويات شعوب الأمة الإسلامية في كل بقاع الأرض.

وعلى عكس ما نتخيل، فإن «إسرائيل» فرحتها اليوم لا توصف بوصول حماس إلى هذه المرحلة الحرجة من استلام زمام تسيير أمور الشعب الفلسطيني. فمن السهل أن تقاتل بحرية مطلقة حينما لا تكون مسؤولا إلا عن نفسك.

ولكن الأمر يحتاج إلى كثير من التعقل والتفكير والتدبير والتردد والأخذ والعطاء والتنازلات حينما تفكر بالحرب وأنت مناط بك مسؤولية شعب بأكمله.

فهنا تصبح مسؤولا عن كل كلمة تتفوه بها وعن كل تصرف يصدر منك بل مسؤول عن تصرفات وتصريحات من هم ضمن أو تحت مسؤوليتك. ربما ضمنت «إسرائيل» بأن حماس لن تكون حماس ما قبل الانتخابات التشريعية.

وإن دور القيادة يتطلب الكثير من التفكير والتأمل. وهذه النظرية تنطبق على جميع أحزاب شعوب العالم. فالشعارات شيء والواقع شيء آخر. وعند وصول تلك الأحزاب إلى سدة الحكم تختلف الأمور ويصبح كثير من الوعود مجرد حبر على ورق.

ان العمليات الاستشهادية التي تريد إسرائيل جر حماس إليها جرا منذ أول يوم أعلنت فيه نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية ستضعف بلا شك.

والدليل على ذلك أن إسرائيل تقوم منذ ما يقرب من أسبوع أو أكثر بالاغتيالات السياسية المتتالية في وضح النهار لنشطاء فلسطينيين ولم نجد أي تهديد أو ردة فعل صارمة من قبل حماس. فهل أصبحت حماس محاصرة ومقيدة بوضعها وصفتها ومسؤوليتها الراهنة؟

لقد قالت حماس كلمتها التي تلخص سياستها المقبلة: «بأنها متمسكة بالسلطة والمقاومة» وانها مقابل الهدنة الطويلة الأمد (التي لم نكن نسمع عنها من قبل لدى قادة حماس) تشترط انسحاب «إسرائيل» إلى الأراضي المحتلة عام 1967.

ونحن نعلم جيدا مدى استحالة تحقيق هذا الأمر في الوقت الراهن على الأقل. ولا نتصور أن تتراجع «إسرائيل» إلى تلك الحدود لتلبية شروط حماس التي تعتبرها ليس فقط خطرا على دولة «إسرائيل» وإنما حركة إرهابية.

باختصار شديد، فإن الوضع أصبح يسير في اتجاه غير الذي كان عليه قبل أسابيع مضت. فالسلطة الجديدة متمثلة في حركة حماس والحكومة الإسرائيلية (أيا كانت، شارونية أم ناتانياهوية) مجبرتان على تغيير تكتيكيهما: فكليهما يتميزان باستخدام القوة في التعامل مع الطرف الآخر:

وعندما تلتقي قوتان بمثل هذا الحجم، فإن العقل يكون هو المسيطر. فبدأت حماس بالمبادرة العاقلة أولا بدعوة إلى هدنة طويلة مع (إسرائيل)، تلك الدولة التي كانت تشكل حتى قبل أيام من إعلان نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية دولة لا تقوم على أساس شرعي، وإسرائيل التي كانت حتى بعد نتائج الانتخابات التشريعية تعتبر حماس منظمة إرهابية .

وترفض التعامل معها من هذا المنطلق، بدأت بالتراجع وتحكيم العقل والتسليم بالأمر الواقع فأخذت تطلب من دول أوروبا أن تضغط على حماس لكي تعترف بإسرائيل!! إن الأيام المقبلة ستشهد تطورات غير متوقعة على أرض فلسطين. فهناك السيف. وهناك القلم. والخيار صعب. والمسؤولية أصعب بكثير.