خدعوك حين قالوا إن الصحافة عمارات شاهقة وبنايات فخمة ومطابع حديثة وطباعة ملونة وإعلانات مزركشة! فالصحافة في الأصل وفي البداية والنهاية هي الحرية. وبغيرها تصبح الصحف مجرد أوراق ملساء خرساء صُفّت وطُبعت عليها حروف صماء باهتة.

ولهذا لم تعد حرية الصحافة منذ دارت أول مطبعة في مصر مطلب الصحافيين وحدهم. ولكنها ظلت طوال قرنين مطلباً شعبياً، لأن الصحافة قامت أصلاً للدفاع عن الوطن والمواطن. ولا تكتمل حرية الوطن إلا بحرية المواطن. ولا يكتمل أي إصلاح حقيقي إلا بالحريتين معاً.

وطوال عدة سنين طال عشقي للتجول في القاهرة “المحروسة” بين الحواري والأزقة والميادين والشوارع والمساجد والكنائس والأسبلة والتكايا، وبين القصور أو المقابر.. حتى بيوت الأدباء والشعراء والفنانين والزعماء، لأربط بين “المكان” والأحداث التاريخية التي تعاقبت عليه حتى أكتشف “ذاكرة المكان”.

وقد أحسست كما اكتشفت أن كل شبر في القاهرة له تاريخ، وقد أحسست كما اكتشفت خلال هيامي بالقاهرة وجولاتي الطائشة في البداية والواعية بعد ذلك أن كل شبر في “المحروسة” له تاريخ.

وبين صعود وهبوط في شارع محمد علي أو القلعة وبين العتبة الخضراء وباب الخلق، حيث دار الكتب القديمة، اكتشفت عدداً كبيراً من محلات الزنكوغراف والطباعة. ومازال بعضها حتى الآن. وتعقبت السر، لأن شارع محمد علي كان أول شارع للصحافة حين بدأ الشيخ علي يوسف إصدار صحيفة “المؤيد” وصحبه وأعقبه عديد من الصحف المجاورة.

وكثيراً ما أعود إلى مقالات الرواد أستلهم منهم روح المقاومة. ومن أمين الرافعي إلى عبد العزيز جاويش ومنه إلى محمود عزمي والمازني وعباس محمود العقاد ومحمد فريد عندما اشتد الغليان الوطني بعد دنشواي، حين قرر الدون جورست المعتمد البريطاني تكميم الصحف وإغلاقها. وأعود إلى “الإجبشيان جازيت” كانت أيامها تنطق بلسان الاحتلال، وتقول: “لابد من وضع قيود وحدود لحرية الصحافة حتى لا تتحول الحرية إلى تهور وعدوان”.

وتواجهها “اللواء” أول فبراير/شباط 1909 بقولها: “ماذا يلجئ الحكومة إلى التفكير في تقييد حرية الصحافة؟ لعلها تريد أن تبطش بالناس بطشة سببها الجلاء والاستقلال”.

ويكتب العقاد مقالاته النارية في جريدة “الدستور”: “لا يجوز إصدار قانون يشتمل على لائحة عامة ما لم يقدم ابتداءً إلى مجلس شورى النواب”.

وكتب محمد فريد وجدي الكاتب الموسوعي 26 مارس/آذار 1908م: “أيها الوزراء اسمعوا.. إن ماتت الحرية اليوم فستبعث غداً”.

وفي 28 مارس 1909 تنشر “مصر الفتاة” القديمة قرار مجلس النظار بإعادة قانون المطبوعات القديم المليء بالقيود وجرائم الرأي في صفحة مجللة بالسواد، وينتقل الغضب من الصحافة إلى الرأي العام.

“في 29 مارس 1909 تبدأ أول مظاهرة شعبية ضمت عشرة آلاف مواطن احتجاجاً على إعادة قانون المطبوعات. وتبدأ المظاهرة من ميدان الأندلس قرب كوبري قصر النيل إلى قصر عابدين لتتحول إلى ميدان الأوبرا القديمة. ويقودها الشاعر محمود رمزي نظيم والصحافي أحمد حلمي رئيس تحرير القطر المصري”.

وهنا تهاجم “الإجبشيان جازيت” من جديد تلك المظاهرات قائلة: “إن البوابين والبرابرة والسفرجية اشتركوا في المظاهرات. وما لهم وحرية الصحافة وهم لا يعرفون القراءة”!

ولم تدرك صحيفة الاحتلال ببطشها الغبي أن عامة الشعب يعرفون أن الصحافة الوطنية تدافع عنهم وعن الاستقلال ومطالبة قوات الاحتلال بالجلاء. ولكن حكومة بطرس باشا غالي تطيع أوامر الاحتلال وتغلق وتصادر كل الصحف الوطنية.

وهنا يقول تقرير مستشار الداخلية الإنجليزي بعد ذلك في 30 يونيو/حزيران 1911: إن عدد الجمعيات السرية بلغ 37 جمعية بعد تقييد الصحافة، لأن كسر الأقلام وتكميم الأفواه وإغلاق الصحف لم توقف السخط الشعبي على الاحتلال!

وقد شهد تاريخ الصحافة شهداء وعملاء. وكان ذلك في مطلع القرن الماضي وبعد ثلاثة أعوام تمر مائة عام على أول مظاهرة شعبية دفاعاً عن حرية الصحافة. بل لقد شهدت مصر منذ 137 عاماً أول كتاب عن حرية الصحافة عام 1879 آخر سنة في حكم إسماعيل. كتبه ونشره بالعربية والفرنسية بعنوان: “حرية المطابع” وحرره شباب الحزب الوطني الأول قبل ثورة عرابي. وطالبوا فيه بحق التعليم وحرية الصحافة. وقد اختفى هذا الكتاب من دار الكتب. وبحثت عنه بمكتبات عديدة. ولكن هذا الكتاب ذكر في ثلاثة مراجع. منها كتاب الأستاذ الدكتور خليل صابات. والدكتور سامي عزيز. والدكتور يونان لبيب رزق “حرية الصحافة” بالعربية. وكتاب جابرييل باير بالإنجليزية عن تاريخ الأحزاب والبرلمانات في مصر. وكتاب ثالث بالفرنسية للدكتور أنور لوقا عن “مصر في مطلع القرن 19”.

والآن.. كيف لصحافة مصر أن تبقى كثير من قوانين الاحتلال والاستعمار والقصر وحكومات الأقليات الوطنية، محفوظة مصونة في ترسانة تملأ قانون العقوبات منذ 1883 و1904 و1907 حتى الآن؟ وكيف يعقل أن تستمر هذه القوانين قائمة تستعين بها السلطة إن شاءت لو أرادت الكيد لحرية التعبير والصحافة؟

وهل يعقل أن تظل حرية الصحافة هي القضية المؤجلة، يتحايلون على تأجيلها وتبريرها بين الأمس واليوم ولا أقول غداً أيضاً؟

وقد تكون مصر بلد العجائب حقاً لأنها تمتلئ بالتناقضات، لأن مصر لها كل هذا التراث الديمقراطي. ودستور 1866 كان من الموجة الثانية في دساتير العالم كما يقول الفقيد المؤرخ هوربو. ومصر عرفت كل هذا النضال الطويل لتحرير إصدار الصحف ومنع الرقابة. والأعجب أنها صدقت على العهد الدولي للأمم المتحدة 16 ديسمبر/كانون الأول 1996 والمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10 ديسمبر 1948.

وبعض العجائب التي نشهدها تؤدي إلى الذهول. وأول أسباب هذا الذهول أن وعداً من الرئيس مبارك بإلغاء عقوبة الحبس في جرائم الرأي أعلنه نقيب الصحافيين جلال عارف عند افتتاح المؤتمر الرابع للصحافيين الذي انعقد من 23 إلى 25 فبراير 2004 أي منذ عامين يكتملان بعد أيام.

وليس وجه العجب عندي أن النقابة تطالب بمراجعة العقوبات وهي منقولة كما تقول مذكرة النقابة عن قوانين أجنبية صدرت في عهد نابليون الثالث في فرنسا أو موسوليني في إيطاليا أو موروثة من عهود الاحتلال والديكتاتورية في مصر، لكن العجب العجاب أن وعد الرئيس مبارك، وهو في الوقت نفسه رئيس الحزب الوطني قد مر على كل أعضاء الحزب الحاكم دون أن يتبنى مرشح واحد في المعارك الانتخابية هذا الوعد.

ولم أجد تفسيراً واحداً. ومن الطبيعي أن تطالب المعارضة بإلغاء القيود والسدود. ولكن الطبيعي أيضاً وليس من باب السذاجة أن تتخذ الحكومة موقفاً واضحاً وصريحاً من حرية الصحافة. وأن تلغي العقوبات الموروثة منذ أيام كرومر وجورست وبطرس غالي وتوفيق نسيم ومحمد محمود وإسماعيل صدقي. ومن هنا نبدأ، ويبدأ الإصلاح، لأن الدفاع عن حرية الصحافة دفاع عن حرية الوطن والمواطن.