نصر شمالي

بالغ المراقبون والمحللون السياسيون في تركيزهم وإبرازهم لعنصر المفاجأة في نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، ولم تقتصر المبالغات على رصد ردود الأفعال الداخلية والإقليمية والدولية التي بدت متفاجئة، بل صوّرت حركة حماس بالذات على أنها فوجئت بهذه النتائج! والحال أن الجديد حصراً في المشهد التاريخي الإنساني، المتحضر والرائع، الذي صنعه الشعب الفلسطيني الباسل بكثير من الإحساس بالمسؤولية، هو هذا الدعم القوي لبرنامج الحركة متجسداً في هذا العدد الكبير من المقاعد النيابية التي خصّها بها، أما في ماعدا ذلك فليس ثمة مفاجآت، حيث للحركة المجاهدة رؤيتها المتكاملة وبرامجها الموضوعة المتعلقة بمختلف هموم الشعب الفلسطيني، سواء ما يتعلق بقضية التحرير التي لها الأولوية على جميع ما عداها، أو ما يتعلق بالعلاقات الداخلية والعربية والدولية، أو مايتعلق بالهموم الإدارية والمعيشية، والاجتماعية والاقتصادية عموماً، فليس صحيحاً أن حركة حماس لم تكن جاهزة لتحمل مثل هذه المسؤوليات مباشرة، حيث هي منذ نتائج الانتخابات التشريعية عام 1996 كانت في وضعية المدعو لتحمل مثل هذه المسؤوليات في حكومة ائتلافية، وهي بالفعل تلقت حينئذ دعوة للمشاركة في حكومة الرئيس محمود عباس، وأخرى للمشاركة في حكومة رئيس الوزراء أحمد قريع، أما أنها لم تستجب لهاتيك الدعوتين فإن السبب يعود إلى أنها وضعت شروطاً، أي أنها لم ترفض المشاركة من حيث المبدأ.

لقد كانت حركة حماس مستعدّة دائماً لتحمل مسؤولياتها في السلطة، في حكومة ائتلاف أو وفاق وطني تدعى إلى الاشتراك فيها، أو تدعو هي الآخرين للاشتراك فيها، غير أنها كانت، وما زالت كما يفترض، تربط بحزم بين تحمّلها مسؤوليات حكومية وبين مراعاة وحماية قواعد أساسية، حدّدها الشيخ الشهيد القائد أحمد ياسين، أهمها: 1- استقلالية القرار الفلسطيني 2- حماية المقاومة 3- حماية المستقبل الفلسطيني. ففي الأحاديث الكثيرة الطويلة عن الحاجة لحكومة إصلاح فلسطينية تتصدى للفساد وتقود الشعب الفلسطيني إلى الحرية كان الشيخ الشهيد، نيابة عن الحركة، يتابع الرؤية الأميركية للإصلاح مدركاً أنها تهدف إلى استئصال المقاومة، وبالتالي إلغاء القرار الفلسطيني المستقل ونسف الأسس التي ينهض عليها مشروع المستقبل الفلسطيني الكريم. وهو في اعتذاره عن الاشتراك في الحكومات الفلسطينية السابقة، للمساهمة في مواجهة الفساد، كان يرى أن الاشتراك لن يحقق الإصلاح، لأن الدخول في الفساد يفسد الداخلين، ولأن الفساد عام والمدعوون للدخول قلائل! لقد رأى الشيخ، وحركة حماس معه، أن الإصلاح ينطلق من مرجعية وطنية تعيد بناء هيكلية مؤسسات منظمة التحرير، وتعيد تشكيل مجلس وطني في الداخل والخارج يحكم القرار الفلسطيني، أي أنه لم يدع إلى هدم المؤسسات القائمة بل إلى احترامها وإعادة الاعتبار إليها وتفعيلها، فالمؤسسات الفلسطينية هذه، على الرغم من عدم اشتراك حماس فيها، هي كما يراها مؤسسات وطنية ليست ملكاً لفصيل بعينه، والدفاع عنها وحفظها وإصلاحها هو من قواعد العمل الوطني الفلسطيني.

إن الدعوة إلى الإصلاح، التي نادى بها الشيخ الشهيد وحركته، تختلف في جوهرها وغاياتها عن الدعوات التي تصدر عن الولايات المتحدة وأوروبا وما شابهها من دعوات محلية تهدف إلى إيقاف الانتفاضة واستئصال المقاومة والتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني، إنها دعوة إلى إقامة مؤسسات وطنية تجمع ممثلي الشعب في الداخل والخارج على أسس ديمقراطية، وعبر انتخابات حرة نزيهة، بما يحقق حماية المقاومة، وقمع الفساد، وإزالة الاحتلال، فالوحدة الوطنية، حسب رؤية الشيخ ياسين وحماس، هي برنامج عمل واسع وليس عنواناً مجرّداً، أو شعاراً للاستهلاك المحلّي!

لقد دعا الشيخ الشهيد إلى تشكيل مرجعية فلسطينية تكون الأداة التي تشرف على الإصلاح وتوجه خطواته، مرجعية تحاسب وتقيل أي فرد مهما كان موقعه، فهي نافذة القرار، قادرة على محاسبة الرئيس والوزير، وهي مرجعية جماهيرية، لا فردية تتجسد في رئيس السلطة وحده، ولذلك يجب أن ينهض مجلس وطني منتخب وليس معيناً من قبل الحكومة، وأن يقوم هذا المجلس بإعداد هيكلية مؤسسات السلطة التي سوف تتخذ القرارات وتلزم الجميع بها، أي أن المطلوب من وجهة نظر حركة حماس وقائدها الشهيد تحقيق مرجعية جماعية عبر الانتخابات وليس عن طريق التعيين.

لقد ركّز الشيخ الشهيد في أحاديثه قبل سنوات بأن الحكومة ليست على جدول البحث والدراسة قبل البت في قضية المرجعية التي ستحكم الحكومة وتحدد لها برنامج عملها، وعلى أن الانتخابات هي أفضل السبل لإيصال الأفضل إلى مراكز التوجيه، وهو كان يضع يده على نبض الشعب المدرك لأسباب فشل المؤسسات وعجزها عن القيام بواجباتها، حيث استشراء الفساد جعل من المجلس التشريعي مجرّد حبر على ورق! يقول الشيخ: ما قيمة مجلس تشريعي لا يحاسب ولا يراقب لأن القوي غائب؟ وما قيمته حين يتفرّد فصيل واحد ويقرّر ما يشاء ويفعل ما يشاء؟

لكن الانتخابات لا يجوز أن تتحول إلى هدف في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق هدف أعلى وأسمى. يقول الشيخ ياسين: نريد انتخابات على قاعدة مواجهة العدو واستخلاص أرضنا ووطننا، وليس الاستسلام للعدو، وعندما نتأكد أن الانتخابات قائمة على مصلحة شعبنا، ومضبوطة بمرجعية فلسطينية قادرة على محاسبة الجميع، نفكر جدّياً في ذلك!

تلك لمحة عن رؤية حركة حماس وقائدها الشهيد أحمد ياسين للمشهد الفلسطيني، أخذتها عن دراسة قيمّة أعدّها الدكتور يوسف موسى رزقة، وبناء عليها كيف يقال أن حماس فوجئت، وأنها لا تعرف تماماً ما الذي يتوجب عليها فعله بعد أن محضها الشعب الفلسطيني العظيم كل هذا القدر من الثقة والدعم؟