شكلت الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى سوريا في توقيتها واستهدافاتها محطة هامة‚ ليس فقط لكونها استهدفت تأكيد عمق الروابط والعلاقات التي تجمع إيران وسوريا وتطويرها والارتقاء بها إلى مستوى التحالف الاستراتيجي الذي نشأ بينهما‚ منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وتحول إيران إلى عمق استراتيجي للأمة العربية في الصراع مع الكيان الصهيوني‚ المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية‚ وإنما تكمن اهميتها أيضا لناحية توقيتها في هذه الظروف التي تشهدها المنطقة بعد الاحتلال الأميركي للعراق‚ ومحاولات واشنطن الخروج من ورطتها العراقية بتشديد الضغوط على سوريا عبر لبنان لاخراجهما من دائرة الصراع في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني‚ واستطرادا فك عرى علاقتهما التحالفية مع إيران‚ وكذلك على إيران من خلال ممارسة الضغوط الأميركية‚ الأوروبية عليها لمنعها من امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية بما يخدم الكيان الصهيوني ويحول دون تعاظم القوة الإيرانية في المنطقة الأغنى بالنفط في العالم‚

ان الحديث عن أهمية الزيارة والرسائل التي اوصلها الرئيسان بشار الاسد ومحمود نجاد‚ وبالتالي الدلالات الهامة لذلك‚ لا يمكن فصله عما سبقها من تطورات واحداث في البلدين‚ شكل الاساس في فهم أهمية ودلالات الزيارة وأهدافها‚

على الصعيد الإيراني مرت الجمهورية الإسلامية بمرحلة صراع داخلي بين التيار الذي يريد ان يحافظ على تراث الثورة الخمينية وبالتالي موقع إيران في الصراع في مواجهة الهيمنة الأميركية والمشروع الصهيوني في المنطقة‚ وبين تيار إصلاحي سعى إلى إحداث تغيير في هذه التوجهات لصالح التصالح مع الولايات المتحدة والغرب والتخلي عن سياسة دعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والعراق‚ واستطرادا وضع حد لتحالفها مع سوريا الذي يزعج واشنطن‚

وقد جاءت الانتخابات النيابية ومن ثم الانتخابات الرئاسية لتحسم هذا الصراع لصالح انتصار التيار الخميني برئاسة الرئيس محمود نجاد والذي حظي بدعم من مرشد الثورة على الخامنئي‚ وقد أدى فوز نجاد إلى إحداث تجديد في الثورة الخمينية لما يجسده نجاد من قيم ومبادئ تعكس التزامه وانتماده لنهج الاستقلال الوطني والتنمية المستقلة وتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والارتقاء بمستوى معيشة الطبقات الشعبية الفقيرة‚ ورفض الخضوع والخنوع للهيمنة والسيطرة الأميريكة‚ والانجاز إلى جانب قضايا الشعوب العادلة والمحقة ولا سيما الوقوف إلى جانب نصرة القضايا العربية في مواجهة الاحتلال الصهيوني وفي المقدمة نصرة مقاومة وكفاح الشعب الفلسطيني‚

وأدى هذا التطور الهام الى إسقاط كل المراهنات الأميركية الغربية لتغيير نظام الحكم في ايران عبر التيار الاصلاحي‚

أما على الصعيد السوري‚ فإن سوريا بعد تسلم الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم إثر رحيل الرئيس حافظ الأسد واجهت ضغوطا اميركية غربية وداخلية استهدفت دفعها الى تغيير سياستها والانضواء تحت راية المشروع الأميركي الشرق أوسطي عبر دفعها للقبول بالاصلاحات وفق المنظور الأميركي والتي تستهدف القضاء على نهج التنمية الاقتصادية المستقلة الذي انتهجته سوريا طوال العقود الماضية ومكنها من حماية استقلالية قرارها السياسي‚ وترافقت هذه الضغوط مع ضغوط أخرى على الصعيد السياسي من أجل دفعها الى التوقف عن دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي والموافقة على التسوية الاميركية ــ الاسرائيلية بما يخص حل الصراع العربي ــ الإسرائيلي‚

غير ان الرئيس بشار الأسد رفض التخلي عن ثوابت السياسة السورية على المستويين الاقتصادي و الاجتماعي والوطني القومي‚ وقد جاء الاحتلال الأميركي للعراق ليضاعف من هذه الضغوط على سوريا التي رفضت الاستجابة لها‚ فكان ان تحالفت القوى الاستعمارية أميركا وفرنسا مستندين الى بعض القوى اللبنانية من أجل إحداث انقلاب في لبنان وتحويله ساحة لأحداث التغيير في سوريا‚ وهو ما بدأ مع اصدار القرار 1559 وما تبعه من اغتيال للرئيس رفيق الحريري وخروج سوريا من لبنان واجراء انتخابات نيابية أتت بفريق الأغلبية الموالي لواشنطن وباريس الى موقع السلطة‚

غير أن سوريا وبرغم هذا التطورات في لبنان التي لم تكن في صالحها اتجهت نحو ترتيب اوضاعها الداخلية من أجل تحصينها‚ وكان عليها أن تحسم موقفها إما باتجاه التراجع عن ثوابتها والقبول بالإملاءات الأميركية والتكيف مع المتغيرات الدولية والإقليمية‚ أورفض ذلك وبالتالي حسم الجدل والسجال الداخلي على هذا الصعيد لصالح تعزيز الخط الوطني القومي الراديكالي الذي يمثله الرئيس بشار الأسد‚

وهذا ما حصل في المؤتمر القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي شهد تغييرا في هذا الاتجاه أدى الى إقصاء التيار الليبرالي الذي يدعو الى التكيف مع الواقع الدولي والاقليمي بعد احتلال العراق‚ ومن ثم اعلان الرئيس الأسد في خطابه التاريخي على مدرج جامعة دمشق اختيار طريق المقاومة في مواجهة الفوضى التي اطلقها المشروع الأميركي في المنطقة ورفض الانحناء أمامه‚

وكان من شأن هذا التطور أن قطع الطريق على أي محاولة لتغيير النظام في سوريا بواسطة قوى ليبرالية وقد جاءت التطورات اللاحقة في لبنان والتي تكشفت عن تعثر وفشل استكمال مشروع الانقلاب الأميركي ــ الفرنسي ان كان على صعيد الفشل بالامساك بكل مفاصل الحكم أو على مستوى العجز عن نزع سلاح المقاومة ليسقط المشروع الانقلابي في كل من لبنان وسوريا وهو ما تجلى أخيرا في ارتباك فريق الأغلبية في لبنان وانتقال الأزمة الى داخله بعد المبادرات العربية‚ وكذلك في انشقاق عبدالحليم خدام بعد خروجه من سوريا والاقامة في باريس‚

هذه التطورات في كل من سوريا وايران ترافقت ايضا مع تعمق مأزق الاحتلال الاميركي في العراق عسكريا وسياسيا بعد الانتخابات العراقية التي جاءت نتائجها بتوازنات سياسية لا تصب في صالح واشنطن‚ هذه التطورات جاءت ايضا في ظل المتغيرات التي طرأت وأدت الى فشل وتعثر المشروع الاميركي في المنطقة والتي ترافقت ايضا مع تبدل المعادلات الدولية باتجاه بروز نظام عالمي متعدد الاقطاب تمظهر في المواقف الروسية والصينية في موضوع الملف النووي الايراني ومسألة التحقيق الدولي في جريمة اغتيال رفيق الحريري‚

في هذا التوقيت جاءت زيارة الرئيس نجاد الى سوريا واجتماعه مع الرئيس الاسد‚ ليس من أجل اقامة تحالف بينهما لأن هذا التحالف قائم بالاصل‚ انما من اجل الاعلان الرسمي عن جبهة سورية ـ ايرانية مع المقاومات الفلسطينية والعراقية واللبنانية بهدف مواجهة التحديات والمستجدات الناتجة عن فشل المشروع الاميركي‚

اولا: مواجهة التحرك الاميركي والروزنامة الجديدة التي بدأت تطرحها الادارة الاميركية للخروج من ورطتها في العراق‚ والتي ظهرت من خلال طلب المعونة العربية والاسلامية لترتيب الوضع العراقي وهذا ما كان في صلب الزيارة الاخيرة لنائب الرئيس الاميركي للمنطقة للحيلولة دون حصول تغييرات تعقب الانسحاب الاميركي تصب في صالح تعزيز الحضور والدور السوري ـ الايراني اقليميا‚

ثانيا: تنظيم الجهود من أجل التصدي للضغوط الاميركية المتزايدة عبر الساحة اللبنانية والهادفة الى عرقلة واحباط المبادرة العربية ومنع تسوية تتعارض مع المشروع الاميركي واهدافه من القرار 1559 واستطرادا محاولة اعطاء دفع للقوى الحليفة لها والتي تلقت ضربة موجعة بعد قرار مجلس الامن الاخير رقم 1644 وبدأت تتأثر سلبا نتيجة الفشل الاميركي في العراق وإعلان واشنطن عزمها البدء بسحب قواتها من هناك‚

ثالثا: لا يمكن تجاهل موقع ودور إيران وسوريا في أي أمر يتعلق بالمنطقة خصوصا اذا كان مرتبطا بترتيب الوضع العراقي الداخلي‚ وكذلك الوضع في لبنان‚فإيران وسوريا تملكان اوراق قوة كثيرة في المنطقة خصوصا في العراق ولبنان وفلسطين حيث يتعرض المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي لحرب استنزاف ذات كلفة عالية بفعل المقاومة فيما المقاومة في حالة تصاعد ونمو على المستويين العسكري والشعبي وهو ما أظهرته الانتخابات العراقية وكذلك الانتخابات التشريعية الفلسطينية الامر الذي ادخل المشروع الاميركي في ورطة كبيرة وشل قدرة الولايات المتحدة الاميركية على توسيع نطاق حربها في المنطقة لتشمل سوريا وايران وهي على العكس من ذلك باتت تبحث عن مخرج وتحتاج الى المساعدة العربية وكذلك مساعدة الشعب العراقي غير ان سوريا وايران اللتين تدركان ذلك جيدا أرسلتا اشارة واضحة بأنهما معنيتان مباشرة بأن يكون ترتيب الوضع العراقي على قاعدة خروج الاحتلال أولا ومن ثم رعاية حل وطني عراقي يحفظ وحدة العراق وشعبه وفي ذات الوقت موقعه العربي والاسلامي‚ من هنا فان القمة السورية الايرانية في دمشق جاءت في توقيت دقيق وحساس في المنطقة لتبرز اهمية دور وموقع سوريا وايران في صنع وصياغة شؤون المنطقة بما يحفظ مصالح دولها وشعوبها بعيدا عن المشاريع والتدخلات الاستعمارية الاميركية الغربية‚ وكذلك لتؤكد ان البلدين لن يقفا مكتوفي الايدي في حالة دفاع عن النفس فقط بل انهما قادران على التصدي ومواجهة أي تحرك أو مشروع يتعارض مع هذه المصالح وهذا ما يشكل بطبيعة الحال ترجمة لمواقف البلدين وانتقالهما من حالة الدفاع الى الهجوم‚