هل تورط الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في العمل على إسقاط النظام في سوريا؟ وهل علينا إرجاع ذلك الى العام 1998 عام إخراج العماد حكمت الشهابي من الحكم في سوريا وهو الذي شكل مرجعاً لوليد جنبلاط في دمشق وباباً له الى الرئيس حافظ الأسد؟ وهل يمكن التأكد اليوم من أن موقف وليد جنبلاط من النظام في سوريا لا يرجع الى يوم إقصاء عبد الحليم خدام عن الملف اللبناني، وهو حليف وصديق الرئيس الحريري؟ جاء ذلك بعد فشل محادثات كلينتون باراك الأسد التي أوصلت الى خلاصة مفادها أن اسرائيل لن تقايض السلام بالأرض في وقت كان فيه الحريري وخدام يعملان على خط السلام العربي الاسرائيلي.
لا شك بأن الإمساك بالورقتين اللبنانية والفلسطينية شكل العمود الفقري للسياسة السورية، لكن الاستراتيجية السورية أضعفت من داخلها بسبب الفساد الذي طال حتى البعد الأمني فيها وبسبب صراع على السلطة في دمشق لم يكن اللبنانيون بمنأى عنه، لا بل كانوا شركاء فيه.

لا ريب ان انتخاب الرئيس لحود أثار حفيظة الحريري وجنبلاط، لا سيما أن خطاب القسم الذي أدلى به لحود أتى بقرارات انقلابية عنوانها الفساد طالت المحسوبين على جنبلاط والحريري دون سواهما، مما قرّب بين الرجلين وأدى الى تنسيق سياسي وإعلامي أسفر عن هجمة شرسة على لحود وتعبئة شعبية ضد النظام السوري بقيادة بشار الأسد الذي كان ممسكاً بالملف اللبناني. وقد توج هذا الهجوم بالانتصار الانتخابي الذي حققه الحليفان جنبلاط والحريري بواسطة قانون غازي كنعان الانتخابي لعام 2000 والذي قيل حينها ان ثمنه تخطى العشرين مليون دولار. وقد طبعت العلاقة بين لحود من جهة والحريري وجنبلاط من جهة اخرى بعداء كبير لعب فيها الطرفان أوراقاً سورية داخلية. فريق بشار الأسد/ إميل لحود من جهة وفريق عبد الحليم خدام/ الحريري جنبلاط من جهة أخرى.

أما تفاصيل الصراع السوري الجنبلاطي فعديدة في تلك الفترة: بدأت عام 2000 حين برز التباين بين جنبلاط ودمشق حول الملف الدرزي الداخلي وبت موضوع مشيخة العقل خارج إرادة جنبلاط، إضافة الى الضغوط التي تعرض لها الزعيم الدرزي و<<التمنيات>> التي دعته الى التحالف الانتخابي عام 2000 مع النائب زاهر الخطيب، الى استياء جنبلاط من إعطاء طلال ارسلان حجماً جديداً وإعلان تحالف بين الأخير والوزير حبيقة، ومن الضغوط والمضايقات التي تعرض لها جنبلاط ومحازبوه، تلك التي مارسها الوزير أنور الخليل حين كان وزيراً للمهجرين.
عتبت دمشق على جنبلاط بعد أن أعلن رفضه التحالف الانتخابي مع زاهر الخطيب <<حتى ولو طلب منه الرئيس حافظ الأسد ذلك>>، مع علمه بمرض الأسد الأب، وبدأت المشكلة تكبر بين جنبلاط ودمشق، خصوصاً أنها بدأت تمس حجم جنبلاط السياسي، وفشلت محاولات احتوائها. وسجل العام 2000 مواقف غير مألوفة في سلوك جنبلاط السياسي الذي كان يعتمد على دعم الحريري له سياسياً ومالياً. ونورد من مواقف جنبلاط على سبيل المثال:
› مشاركته اللافتة في تشييع العميد ريمون إده، الى حد أن الحضور الاشتراكي طغى على كل ما عداه.
› حضور جنبلاط الى الكسليك قبل انتهاء فترة الحداد في سوريا على الرئيس حافظ الأسد للمشاركة في ندوة سياسية عبر فيها عن رؤيته الجديدة وخلاصتها أنه من الضروري إقامة منبر دائم يناقش الاتفاقات مع سوريا وان لا بد من وضعها على المشرحة.
› ضرورة تحديد العمالة السورية في لبنان.
› ضرورة إخراج سمير جعجع من السجن والسماح للعماد عون بالعودة من منفاه الباريسي.
› وقوف جنبلاط على الحياد في الملف المعيشي مراعاة لعلاقته بالحريري.
وهكذا، فمع وفاة الأسد الأب وبروز بوادر الصراع الداخلي على السلطة في سوريا، اعتبر جنبلاط والحريري المتحالف مع عبد الحليم خدام وغازي كنعان بأن بشار الأسد لا يمكنه أن يملأ الفراغ الذي خلّفه الأسد الأب وبالتالي لا يمكن لبشار أن يحكم سوريا.
وبالرغم من مواقفه الحادة، فقد تفهم جنبلاط ضرورة عدم المس بالأمن القومي لسوريا في لبنان وعدم العودة الى الماضي، لكنه اعتبر في الوقت نفسه أن التدخلات الفرعية لا علاقة لها بالأمن القومي. وعليه، فقد استمر جنبلاط في دعم سوريا في وجه ما يحاك للمنطقة، لا سيما بعد الاجتياح الاميركي للعراق، لكنه وقف في وجه التمديد للرئيس لحود متلاحماً مع موقف الحليف الحريري. واعتبر جنبلاط أن التمديد للحود أعطى الاميركيين الذريعة للتدخل عبر القرار 1559 متناسياً المشاركة الفرنسية الفعالة في تهيئة الأجواء السياسية لهذا القرار التي اعتبرته فرنسا أداة للضغط على دمشق من أجل دفعها لوقف الدعم عن لحود.

وبعد دخول جنبلاط جبهة معارضة التمديد، ومحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة واغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم يتوان جنبلاط عن اتهام النظام السوري بل تصاعدت اتهاماته مع سلسلة الاغتيالات التي شهدها لبنان والتي كان آخرها اغتيال النائب والصحافي جبران التويني. وذهب جنبلاط الى حد دعوة الولايات المتحدة الى اقتلاع النظام في دمشق واتهم حلفاء سوريا في لبنان، لا سيما حزب الله وحركة أمل، بالعمل على تغطيته. ومع التحذيرات من وجود لوائح اغتيالات في لبنان، اعتبر جنبلاط أن السوريين جادون في محاولة اغتياله.
السؤال الذي يتبادر الى الذهن: هل شعر جنبلاط بأنه أوغل في التورط ضد النظام في دمشق واكتشف فقط مؤخراً بأن الغرب، الاوروبي والأميركي، لا ينوي إسقاط النظام السوري، على الأقل ليس الآن؟
هل استعجال جنبلاط في اتخاذ مواقف معادية للنظام السوري جعله يتوجس على حياته حيث أتت سلسلة الاغتيالات المتتالية لتخرجه عن طوره في كثير من الأحيان؟
قد يتبادر الى ذهن البعض بأن جنبلاط الذي كان حليفاً لسوريا أصبح أقرب الى المملكة العربية السعودية، وهو يحاول جاهداً قيادة الدفة السنية في لبنان لعلمه أن سعد الحريري تنقصه الخبرة والتجربة السياسية. إلا أن موقف جنبلاط الأخير من الحوار اللبناني السني الشيعي الذي دار في المملكة العربية السعودية عكس خوفاً كبيراً لدى جنبلاط من أن تتم المصالحة على حسابه، مما جعله ينقضّ على الاتفاق الذي كان قد تم التوصل إليه في الرياض.

ولجأ جنبلاط الى حلفائه في القوات اللبنانية وبادر الى فتح حوار مع العماد عون ملوحاً بورقة ضغط مسيحية، فيما فتح جنبلاط النار على حزب الله في محاولة لاستنهاض همة المملكة السعودية ضد <<حزب الله الايراني>> مستعيناً بما كتبه إليوت أبرامز عن الانتصار الشيعي في العراق والذي يجب أن يقابله انتصار سني في سوريا، مما يعطي عبد الحليم خدام، حليف جنبلاط، الأولوية في معارضته للنظام السوري التي كانت قد بدأت عام 1998 وتبلورت في حزيران 2005 وبلغت الشاشات في الأول من كانون الثاني 2006. وقد جاء انشقاق خدام ورقة إضافية يلعبها جنبلاط ضد النظام في سوريا، خصوصاً بعد خسارته لغازي كنعان، مما أعطى انطباعاً بأن جنبلاط كان شريكاً فعلياً في محاولة انقلاب على النظام في دمشق. هل هذا في مصلحة جنبلاط ومصلحة لبنان؟
إن الحرب الكلامية والاعلامية التي يشنها جنبلاط على حزب الله واتهامه الحزب بالضلوع في عمليات الاغتيال المتكررة عبر السيارات المفخخة، الخ (...)، عكست تحدياً واستدراجاً للحزب وأرسلت إشارات الى الادارة الاميركية بأن تطبيق القرار 1559 ممكن، خصوصاً أن جنبلاط الذي مانع في البداية المس بسلاح المقاومة وأصر على تنظيم السلاح الفلسطيني، أصبح جاهزاً اليوم لتطبيق القرار الأممي. وها هو يستعمل كل الأوراق لحشر حلفاء سوريا في لبنان من أجل ذلك.

مع الانتخابات العراقية الأخيرة، توجس جنبلاط من تقارب أميركي سوري، وكأن كل تقارب أميركي سوري، أو عربي سوري أو لبناني سوري سيكون على حسابه. هل أخطأ جنبلاط في حساباته السياسية رغم نظرة الكثيرين له أنه لاعب يملك حاسة قوية للاستشراف عن بعد؟
هل دخل جنبلاط في لعبة التنكر لحلفاء الأمس، السوريون منهم والفلسطينيون واللبنانيون، لأن الزمن اليوم قد تغير عن ذلك الذي ألبسه فيه ياسر عرفات العباءة الوطنية وجعل منه حافظ الأسد أميراً على الجبل؟ إذا سلمنا جدلا بأن ايران هي <<فاتيكان>> الشيعة، والمملكة السعودية <<فاتيكان>> السنة، وال <<الفاتيكان>> <<فاتيكان>> المسيحيين، أليس جبل العرب والجولان المحتل الخزان البشري والسياسي للطائفة الدرزية ولوليد جنبلاط؟

لماذا وصلت الأمور الى حدودها القصوى ولماذا الهروب المستمر الى الأمام والهجوم دون هوادة؟ هل يعتقد جنبلاط أن باستطاعة فرد أو جزء من جماعة ما الوقوف في وجه الدول ومصالحها؟
من يستطيع القول اليوم انه لولا اغتيال الرئيس رفيق الحريري لما أمكن زعزعة استقرار لبنان وتهديد سوريا وفتح الساحة على جميع احتمالات الصراع في منطقة الشرق الأوسط. ان الانكشاف السياسي الذي تشهده الساحة اللبنانية اليوم إنما يشير الى أن اغتيال رفيق الحريري أنهى فترة الهدنة التي كانت قائمة وعبّد الطريق لخلط الاوراق لرسم الشرق الأوسط الجديد الذي لا بد أن يمر بلبنان.
فإلى أين؟