بات مسلماً به لدى الأميركيين، وغيرهم، أن الرئيس جورج بوش يتسبب بمشكلة لكتبة خطاباته، فهؤلاء مطالبون بأن يجدوا، في كل مرة، صياغة جديدة لأفكار واطروحات تتكرر يوما بعد يوم: الحرب على الإرهاب، نشر الديمقراطية، موقع العراق في الكفاح العالمي ضد الأصولية الجهادية، الانتصار الممكن والأخذ في التحقق، الدول الشريرة، الحد من انتشار أسلحة الدمار، الخ...

وكالعادة يلقي الرجل خطابه المكرر وكأنه يكتشف هذه المفاهيم للمرة الأولى ويصارح مواطنيه بها. يتعمد التبسيط الأقصى خاتما كل فقرة بعبارة موضوعة قصدا لإثارة التصفيق.

ولكن، إلى جانب التبسيط، يبدو الخطاب وكأنه يسير في خط مواز للوقائع يطل عليها من موقعه ولكنه لا يلامسها فعلا، ولا يتفاعل معها، ولا يبدو متأثرا بها ولا حتى معنيا باستكشاف آثارها على المفردات المستخدمة.

كان خطاب «حال الاتحاد»، هذه السنة، مماثلا لكلمات سابقة ألقاها الرئيس. ولقد تلاه من دون أن تظهر على ملامحه أنه سبق له قول الكلام نفسه عشرات المرات، ومن غير أن يكون معنيا باختيار اطروحات واقتراح سياسات يمكن لها أن تحدث، ولو بعض التعديل، في وضعه المأزوم وشعبيته المتراجعة.

ولقد اجمع المراقبون أنه، عند التنقيب الفعلي، يظهر أن الفكرة الوحيدة الجديدة التي طرحها بوش هي المتعلقة بتوجهه نحو خفض الاعتماد الأميركي على النفط المستورد من الشرق الأوسط بنسبة 75 في المئة وذلك في العام 2025. ولكن هذا الجديد، إياه، دفع نحو طرح عشرات الأسئلة. هذه بعضها:

لم يوضح الرئيس كم ستكون عليه حاجة الولايات المتحدة الاستهلاكية في هذا التاريخ، ولا حاجتها الاستيرادية، ولا حصة الشرق الأوسط في هذا الاستيراد.

لم يتضمن الخطاب عناوين واضحة لخطة الانفاق على تأمين مصادر بديلة للطاقة، كذلك لم ترد إشارة إلى امكانية النجاح في ذلك في غضون عقدين من الزمن.

الطاقة البديلة هي أحد وجهي المشكلة. الوجه الآخر هو الانفاق على تخفيف الحاجة إلى النفط كمصدر للطاقة وذلك بالتوجه نحو انتاج سيارات جديدة، وبناء مصانع جديدة، الخ... ثمة أبحاث في هذا المجال، وثمة تجارب، ولكنها توحي كلها انها لم تتوصل إلى نتائج تجارية تسويقية.

المعروف أن العالم يتجه نحو انفاق عشرات المليارات من الدولارات في السنوات المقبلة من أجل تطوير الاستخراج في حقول النفط المعروفة واستكشاف غيرها.

والمعروف، أيضا، أن هذه المليارات ستنفقها الدول المنتجة وتذهب معظم عائداتها إلى الشركات الغربية العملاقة. هل قرر بوش الاستغناء عن هذه الربحية والتوجه، بدل ذلك، إلى الانفاق من الميزانية الوطنية على تطوير مصادر الطاقة البديلة؟

تعاني الميزانية الأميركية في عهد بوش من عجز متنام بعد أن كانت تحقق فائضا ملموسا أيام بيل كلينتون. والسبب في ذلك الاقتطاع الضريبي فضلا عن نفقات الحرب (إعصار كاترينا جاء لاحقا).

والواضح أن السنة المالية الحالية ستعزز هذا الوضع وذلك خلافا لوعد بوش بخفض العجز إلى النصف عند انتهاء ولايته الثانية، يقود ذلك إلى استنتاج بسيط يقول ان الحكومة الأميركية عاجزة عن تأمين الأموال اللازمة لتمويل برامج التحول عن النفط. وبما أن القطاع الخاص لن يقدم على هذه المهمة وحده فإن خطاب بوش لم يلمح إلى وجود بداية اهتمام جدي بهذا الموضوع.

ليس سرا أن روابط وثيقة تشد أركان الإدارة الحالية إلى عالم النفط، ولقد بات مؤكدا الآن أن نائب الرئيس ديك تشيني وضع سياسة الطاقة الوطنية في إثر لقاءات سرية عقدها مع مسؤولين في كبريات الشركات النفطية (حاول مثل العادة، أن ينفي ولكن، مثل العادة، لم يصدقه أحد).

ولقد قامت هذه الخطة على تأكيد الاستمرار في اعتماد النفط مصدرا أساسيا للطاقة. هل قرر بوش تغيير الوجهة؟ هل قرر إنهاء «التحالف» مع هذه الشركات؟

نفقات الحرب على العراق مجهولة و...مفتوحة. لقد أوردت الإدارة عشية الغزو أنها ستقارب 70 مليار دولار وتبجح بول وولفوفيتز بأن العراق الغني سيمول الحرب وإعادة الإعمار. ولما قيل، في ذلك الوقت، ان النفقات قد تقارب ال200 مليار دولار جرت الإطاحة بصاحب الرقم وهو المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض!

وثمة دراسات جدية تؤكد الآن ان الكلفة قد تتراوح بين واحد واثنين تريليون دولار (جوزف ستغيلتز، حائز على نوبل للاقتصاد). وتعترف الإدارة نفسها انها أنفقت مئات المليارات من الدولارات وقد اضطرت إلى عدم طلب اعتمادات من أجل إعادة الإعمار في العراق لهذه السنة.

يصعب علينا التصديق بأن بوش قام بهذا «التبذير» من أجل ضمان حق العراقيين بالاقتراع. لقد كان النفط في صلب الحرب ولم يكن سببها الوحيد طبعا. ومن المنطقي الافتراض أن الإدارة معنية في إيجاد وسيلة لارتهان النفط العراقي وغيره أكثر من كونها معنية بإدارة الظهر لهذه المنطقة الحساسة.

إذا كان بوش جادا فعلا في مشروعه الديمقراطي في الشرق الأوسط الكبير لا يعود مفهوما لماذا قرر الآن أنه، بعد 20 سنة، لن تكون بلاده قادرة على إقامة علاقات تجارية سليمة مع دول مالكة لهذه المادة الأولية الضرورية للاقتصاد العالمي.

إن التحرر الأميركي من نفط الشرق الأوسط يحرر العالم الغربي، وحتى العالم النامي مثل الصين والهند من الحاجة إلى دور الشرطي الأميركي في هذه المنطقة.

ويعني ذلك، عمليا، تراجع موقع أميركا الاستراتيجي حيال حلفاء وخصوم تجاريين يزداد تهديدهم لها ومنافستهم إياهم في الأسواق العالمية وفي سوقها بالذات.

يتناقض اقتراح بوش الأخير مع سياسة اتبعتها إدارته منذ وصولها ودشنتها برفض التوقيع على اتفاقية كيوتو. لقد كان الإصرار على استخدام النفط مصدرا للطاقة، والاندفاع نحو تطوير الإنتاج، في جوهر الموقف الأميركي الذي أثار اعتراض الدول الأوروبية واليابان وتسبب في غضب عارم في العالم كله وفي اتهام الولايات المتحدة.

ولقد سبق للإدارة أن ردت بأبحاث شبه علمية تقلل من تأثير انبعاث الغاز على الغلاف الأرضي، وتسخر من الهموم «الخضراء» للبشرية. فهل قذف الله نورا جديدا في صدر بوش؟

يرى البعض في إشارة الرئيس الأميركي إلى خفض الاعتماد على النفط، ونفط الشرق الأوسط تحديدا، جوابا قاصرا على انتقادات وجهت إليه: النفط مضاد للبيئة، أموال النفط تمول الإرهاب، الريع النفطي يعطل المسار الديمقراطي الخ..

إلا أن الحقيقة قد تكون أكثر قصورا مما يبدو. يريد بوش، عبر رمي الفكرة، الضغط على الأسعار أولا، والضغط على الدول النفطية ثانيا. إن هذه هي خلاصة «التنقيب» في سياسته النفطية الجديدة. إنها سياسة تضع الشعارات الإستراتيجية الكبرى في خدمة أهداف صغرى ومباشرة.