من دون تردد قبلت قبل نحو ثلاثة أسابيع دعوة جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في صيدا للمشاركة في احياء ذكرى مرور سنة على استشهاد الرئيس رفيق الحريري وهو في عز عطائه لوطنه لبنان ولأمته العربية. لكن عندما بدأت اعداد هذه الكلمة للمناسبة، واجهت صعوبات كثيرة كادت ان تجعلني اعدل عن هذه المشاركة، ابرزها على الاطلاق العجز عن الاحاطة الشاملة بتاريخ هذه الشخصية الوطنية الفذة والخوف من عدم ايفائها حقها في الوقت الذي لا تزال سهام التجريح تطاولها ومحاولات التشكيك تستهدف مسيرتها وانجازاتها. ولا تخفف من هذه الصعوبة علاقة الصداقة بل الأخوة التي ربطت بيني وبينه منذ عام 1984 حتى استشهاده على ايدي الغدر والغادرين.

عنوان مشاركتي في هذه الذكرى كما تم الاتفاق مع منظميها هو لبنان بعد الحريري. وذلك موضوع مهم جدا بل بالغ الأهمية لأن الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى ثلاث وعشرين سنة تعاطى خلالها الشأن العام من مواقع مختلفة والذي كانت له مساهمات كبيرة ومتنوعة في قيادة لبنان نحو مستقبل السلم الاهلي والحرية والسيادة والاستقلال وتكافؤ الفرص والازدهار والعيش المشترك مستحيل ألا يكون له بل لاستشهاده وتاليا لانتهاء عمله الوطني آثار جسيمة على الوضع اللبناني. الا انني استأذنهم اليوم للحديث اولا عن مرحلتين سبقتا الاستشهاد كانتا غنيتين بالنشاط والمبادرات الخلاقة وذلك كي يكــون فـي الامكان معالجــة مرحـلـة غيابــه او بالاحــرى الاتجاه الذي سيسير فيــه لبنان بعد هذا الغياب.
والمرحلتان هما: مرحلــة بــدء الحريري تعاطي الشأن العــام الاقتصادي اولا ثم السياسي في لبنان والتي بدأت منذ الاجتياح الاسرائيلي الواسع للبنان في حزيران 1982 واستمرت قرابة عشر سنين، ومرحلة ممارسة الحريري الشأن العام السياسي في لبنان التي بدأت يوم تسلم رئاسة الحكومة للمرة الاولى في اواخر عام 1992 وانتهت باستشهاده في الرابع عشر من شباط 2005.

في المرحلة الاولى ظهرت قومية الشهيد رفيق ووطنيته. فهو من جهة رفض الاجتياح الاسرائيلي وقدم ما في استطاعته من مساعدات لتمكين اللبنانيين من الصمود في وجهه، وخصوصا في الجنوب وتحديدا في مدينته التي احب صيدا. وساهم من خلال صداقاته العربية والدولية التي ربما كانت في بداياتها في ذلك الحين في دفع المجتمعين العربي والدولي الى وقف العدوان الاسرائيلي. وفي مراحل لاحقة انهائه. وهو من جهة ثانية اطلق ورشة تعليم جامعية لا تستطيع ان تقوم بها الدول عادة أثمرت بعد سنوات طويلة تخرج اكثر من ثلاثين الف لبناني في أرقى جامعات لبنان والعالم. وكان يرمي في تقديري الى تحقيق هدفين من ذلك.

الاول، المساعدة لانهاء الحروب في لبنان عن طريق دفع الشباب الذين يخوضونها الى العلم الذي بواسطته يستطيعون النهوض بوطنهم واستعادة مناعته وقدرته على ممارسة دوره السياسي في هذه المنطقة من العالم. والثاني، محاولة حل مشكلة البطالة المتنوعة الاسباب بقيام جيل لبناني شاب متعلم بل متخصص قادر على تلبية سوق العمل في المحيط الطبيعي للبنان المحتاج دائما الى عمالة خارجية عنيت به العالم العربي. وهو من جهة رابعة وضع رؤية لعودة الحياة الى وسط العاصمة بيروت ليس طمعا بمكاسب مهمة كما شيع الخائفون منه والمتضررون ولكن رغبة في استعادة روح العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين والذي جسدته بيروت المدينة قبل ان تكبر وتتطور افقيا وعموديا والذي كان تعبيرا حياً عن العيش المشترك في كل لبنان رغم كل الاختلافات المعروفة والفوارق. وهو من جهة خامسة انخرط في محاولات عدة لانهاء الحروب الاهلية وغير الاهلية في لبنان. اذكر منها ثلاثا. الاولى، بعد الاجتياح الاسرائيلي الواسع عام 1982، وقد قام بها بصفته موفداً للعاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز والذي كانت تربطه به علاقة مودة وصداقة بل اخوة عميقة.

وبهذه الصفة نشط بين الرياض وبيروت ودمشق حينا بمفرده وحينا آخر يرافقه الامير السعودي بندر بن سلطان بن عبد العزيز. ولم يكن قبوله موقع الموفد لعاهل السعودية انطلاقا من طموحات الى اي موقع، بل كان انطلاقا من اقتناعه بان العربية السعودية تهتم كثيرا بلبنان وتحرص على انتهاء الحروب فيه وعليه وعلى عودة الاستقرار الى ربوعه وعلى استمرار العيش المشترك بين ابنائه رغم انتمائهم الى ديانات ومذاهب مختلفة. وكان ايضا انطلاقا من اقتناعه بوزن المملكة في حينه وبالاحترام الواسع لها اولا لدى اللبنانيين وثانيا لدى الفلسطينيين الذين انساقوا الى الحرب فصاروا طرفا فيها وثالثا لدى سوريا وتحديدا رئيسها الراحل حافظ الاسد. ورابعا لدى المجتمع الدولي على تنوع دوله الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة.

وقام الشهيد الحريري بصفته المشار اليها اعلاه وبصفته الوطنية اللبنانية بدور مميز وكبير في مؤتمرين للحوار بين الاطراف اللبنانيين المتحاربين عقد الاول في جنيف واثمر توافقا على الغاء معاهدة 17 ايار 1983 مع اسرائيل. وعقد الثاني بعد وقت قصير في لوزان لكنه لم ينجح في توصل الى تفاهم بين الافرقاء المتحاربين وتاليا الى وقف الحرب.

وقد آثار هذا الفشل غضب الشهيد رفيق الحريري وقلقه. وشاهدت شخصيا رد فعله اذ كنت انتظر انتهاء الاجتماع الاخير او قبل الاخير لمؤتمر لوزان، لم اعد اذكر لاستفسر منه عن مجريات الاجتماع. وعندما خرج دعاني كالعادة الى مرافقته الى جناحه الخاص في الفندق. وفور دخولنا اياه "طبش" الباب وطلب من مرافق شخصي له ان يعد له كوب شراب، وقبل ان ابادره بأي سؤال اجهش في البكاء وراح يتمتم بكلمات غير واضحة وغير مفهومة. فوجئت وصدمت وركزت كي اسمع أكثر فوجدته ينتقد بل يهاجم الزعماء السياسيين الذين اخفقوا في التوصل الى حل متهما اياهم، بالتسبب بخراب البلاد. والمحاولة الثانية معظمها عام 1985 علما انها كانت بدأت في العام الذي سبق. وانتهت الى الفشل ايضا وبطريقة دراماتيكية في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1986. وسعت هذه المحاولة الى اقناع اطراف الحرب في لبنان اي الميليشيات الاساسية المسلحة بالتحاور . وجند لها الشهيد رفيق الحريري المملكة العربية السعودية واخذ موافقة سوريا الموجودة في لبنان عليها، بل نسق مع سوريا لانجاحها اقتناعا منه بدورها الاساسي على الساحة اللبنانية وتاليا بقدرتها على دفع الامور في الاتجاه الذي تقرر السير فيه. نجح اولا في جمع المتحاربين، ونجح ثانيا في توصلهم الى تفاهم تفصيلي لانهاء الحرب اطلق عليه اسم "الاتفاق الثلاثي". ودعمت سوريا الامرين ورعت حفل توقيع هذا الاتفاق. لكنه سقط بعد اسابيع بانتفاضة مسلحة قام بها فريق في "القوات اللبنانية" على من وقع عليه باسمها. واستمرت الحرب.

اما المحاولة الثالثة فكانت اجتماعات النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية واتفاقهم على ميثاق وطني جديد حمل اسم هذه المدينة وبه بدأت عملية انهاء الحرب اللبنانية العسكرية التي لم تنته فعلا الا في الثالث عشر من تشرين الاول عام 1990. وفي هذه المحاولة قام الشهيد الحريري بدور كبير انطلاقا من قربه من العربية السعودية ومليكها فهد بن عبد العزيز وعلاقة عمل وصداقة قامت بينه وبين سوريا الى علاقاته الجدية التي نسجها مع الاطراف اللبنانيين المتحاربين والتي ثبت لهم خلالها ان هدفه وطني وانساني بحت وهو وقف الحرب وقيام لبنان مجددا واستعادة موقعه على خريطة الدول المستقلة في العالم واستعادة دوره العربي المميز رائدا للحريات الديموقراطية والازدهار والتقدم والعلم.

لماذا فشلت المحاولتان الاوليان لوقف الحرب او لإنهائها ونجحت المحاولة الثالثة؟

لا شك في ان الشهيد بذل كل جهده كي تنجح اولى المحاولات، لكن ذلك لم يحصل لأسباب عدة. منها، عدم نضوج الوضع اللبناني لتقبل حلول أو تسويات تعطي جهة اقليمية معينة دورا اساسيا فيه وعدم نضوج الوضع العربي لقبول دور كهذا وعدم اعتقاد المجتمع الدولي في ذلك الحين ان استمرار الحرب في لبنان يهدد الاستقرار الاقليمي العام وخصوصا بعدما تحول ساحة يتصارع فيه اطراف الصراع الدولي كلهم واطراف ازمة الشرق الاوسط كلهم واطراف الصراعات العربية – العربية كلهم وكل ذلك بواسطة الشعب اللبناني الذي تحول، ويا للأسف، مجموعة من الادوات للخارج على تنوعه من شقيق وصديق وعدو. ومنها ايضا حداثة تجربة شهيد لبنان في السياسات اللبنانية والسياسات العربية الدولية المعلن منها والمضمر وحداثة خبرته في الشخصيات السياسية اللبنانية وغير اللبنانية وحسن طويته وطيبة قلبه التي استغلها كثيرون وظنوها ضعفا عنده في حين انها كانت دليلا على اخلاصه وصدق نياته الوطنية اللبنانية والعربية.

ولا شك ايضا في ان الشهيد الحريري بذل كل ما بوسعه بل وضع رصيده الذي كان بدأ يكبر في ثانية المحاولات (الاتفاق الثلاثي)، لكنها لم تنجح لاسباب عدة. منها، عدم وصول الجهات العربية المعنية بلبنان مباشرة اي سوريا وخصوصا بعدما صار دورها الاول فيه او حتى الاوحد والجهات الدولية "المسؤولة" عن السلام العالمي الى توافق على كثير من القضايا الخلافية الامر الذي ابقى لبنان بتوافقها غير المباشر مسرحا للحروب الداخلية والخارجية. فسوريا كانت جادة في انجاح اتفاق المحاولة الثانية الذي سمي بالثلاثي لانه ينهي الحرب بشروطها ويمنحها رسميا دورا بالغ الاهمية في لبنان. وقد شعرت بالضيق الشديد لسقوطه المرير على الارض. لكن بحكم القوة التي كانت لها آنذاك، كان في مقدورها احتواء هذا السقوط وتوظيفه لمصلحتها مستقبلا وخصوصا انه ادى الى تصدع كبير بل وخطير في قوى الممانعة لها في لبنان التي كانت في ذلك الحين مسيحية في معظمها. ومن الاسباب ايضا عدم اقتناع المجتمع الدولي وتحديدا اميركا بأن ظروف انتهاء الحرب توافرت ورفضه ان تقطف سوريا ثمار هذا الانهاء فوقف علنا وبصراحة عندما بدأت محاولة اسقاط الاتفاق عسكريا ضد اي تدخل عسكري سوري او لبناني حليف للمحافظة على بقائه.

ومن الأسباب أخيراً وقوف الفريق السياسي التقليدي المنتمي اعضاؤه الى كل المذاهب والطوائف في البلاد ضد الاتفاق لاسباب فئوية واخرى متناقضة. طبعا كان الشهيد الحريري صار في تلك المرحلة اكثر خبرة في الخلفيات الاقليمية والدولية لما يجري في بلاده واكثر معرفة بالسياسيين اللبنانيين وتاليا كان على علم بالصعوبات التي قد تفشل محاولته. لكنه آثر الاستمرار فيها اقتناعا منه بحاجة لبنان الى السلام وبامكان ان "يظمط" هذا الاتفاق او على الاقل بامكان ان يؤسس وان فشل لوضع مستقبلي يكون مهيأ اكثر للحلول والتسويات. وكان همه في تلك الفترة والفريق الذي كان يعمل معه وانا منه وقف الحرب معتبرين ان كل القضايا الاخرى يمكن ان تحل بالحوار.

اما ثالثة المحاولات فقد نجحت لأن كل الذي ادى الى فشل المحاولتين الأوليين لم يعد موجودا. فالحرب في لبنان بدأت تشكل خطرا فعليا عليه وعلى بقائه وتاليا على المنطقة. واللبنانيون تعبوا من الحروب وصاروا يريدون "حاج خلاص منها" كما يقال. والعرب لم يعد في استطاعتهم تحمل تدهور لبنان وانزلاقه نحو النهاية. وسوريا وصلت الى ما تريده اي الى موافقة اللبنانيين بل قبلهم العرب والاميركيين والمجتمع الدولي عموما على ممارسة دور استئثاري حصري في لبنان هو اشبه بالادارة المباشرة له او الوصاية عليه. والولايات المتحدة كانت توصلت مع سوريا الى تفاهمات منذ عام 1987 خففت من حدة التوتر بين الدولتين والتزمت بموجبها سوريا المساعدة على تهدئة الوضع اللبناني والتعاون مع المجتمع الدولي من أجل ذلك. اما اميركا فقدمت الى سوريا تفويض المجتمع الدولي ومعه العربي اياها ادارة انهاء الحرب في لبنان ثم ادارة السلم فيه. والباقي معروف.

ماذا عن مرحلة الشهيد الحريري الثانية في لبنان؟

في هذه المرحلة تعاطى الحريري الشأن العام باحتراف سواء من موقع رئاسة الحكومة التي شغل على مدى سنوات طويلة، او من موقع المعارض من داخل المؤسسات وتحديدا من مجلس النواب، واثبت انه رجل دولة من طراز رفيع جدا واثبت انه باني لبنان الحديث او البادئ ببنائه. واثبت انه عربي بامتياز من خلال تعاونه الصادق مع سوريا ومع سائر الدول العربية، واثبت انه رقم صعب ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة. اثبت انه لبناني صميم لا يرضى عن استقلال وطنه وسيادته وحريته وديمقراطيته بديلا. واثبت انه لا طائفي بممارساته بدليل تناوب الطائفيين والمذهبيين من كل الطوائف والمذاهب عليه بالدور. واثبت انه عالمي بدليل نجاحه وفي اكثر من مرة في تجنيد المجتمع الدولي لنجدة لبنان. وما جرى عام 1993 وعام 1996 اثناء عدواني اسرائيل على لبنان خير دليل على ذلك. وكذلك ما جرى عام 2002 أي مؤتمر باريس الذي وضع لبنان على سكة العافية الاقتصادية.

لكنه لم يسلكها لان عافيته السياسية كانت غير مكتملة ولان عدم اكتمالها كانت لها أسباب متنوعة منها الحسابات عند الكثيرين في الداخل والحسابات الواسعة عند الكثيرين في الخارج ومنهم، ويا للأسف، اشقاؤه. لم يتغير الرئيس الشهيد رفيق الحريري في هذه المرحلة. بل ازدادت خبرته الى حد التخمة ربما وتعاظم نفوذه الى درجة لم يعد يستطيع احتمالها اخصامه السياسيون في الداخل واصحاب المطامع في لبنان من الخارج وصار أمل كل المطالبين باستعادة الحرية والسيادة والاستقلال. وازداد تعلقه بلبنان. وازدادت احاطته بالملف اللبناني من كل جوانبه الداخلية والاقليمية والدولية وازدادت هواجسه على الكيان وعلى العيش المشترك من الخارج ولذلك حاور الداخل على تناقضه وتنوعه وحاول التوصل معه الى تفاهمات تعزز مناعة الوطن التي كان اول من عمل لاستعادتها.

وازداد تصميمه على اقامة علاقات مميزة مع سوريا لانها في مصلحتها ومصلحة بلاده وفي الوقت نفسه تصميمه على جعلها متكافئة. وربما بدأت تساوره هواجس من اهداف اقليمية غير معلنة وربما مناقضة للمعلن منها في لبنان. لكنه كان يدرك ان ازالة هذه الهواجس لم تكن متاحة على نحو مباشر لاعتبارات اقليمية ودولية اكثر مما هي محلية لبنانية فسعى لتبديدها على نحو غير مباشر من خلال انهاض لبنان اقتصاديا واعادة الازدهار اليه معتقدا ان ذلك يمكنه من استعادة سيادته واستقلاله على نحو ما فعلت اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لكنه نسي ان شعب اليابان موحد وان شعب المانيا موحد وان ولاء كل منهما لوطنه اقوى من أي ولاء آخر مهما ارتفعت رتبته او قيمته في حين ان شعب لبنان "شعوب" وقبائل متناحرة. ونسي ان الممسكين بلبنان من خارج لن يتركوه بسهولة ولن يكتفوا بنوع العلاقة التي قامت بعد الحرب بين كل من المانيا واليابان بالولايات المتحدة. هل نسي فعلا ذلك؟ كلا على الأرجح لكنه بحكم طبيعته لم يكن يستطيع الا اكمال العمل والتحرك في انتظار فرص ملائمة.

ورغم الانجازات الكبيرة التي حققها الرئيس الشهيد رفيق الحريري في المرحلة الثانية هذه فانه فشل في تحقيق طموحاته الكبيرة لوطنه بسبب تضافر مجموعة عوامل محلية واقليمية كان اصحابها فاعلين في البلاد. فخرج من السلطة لانه اقتنع باستحالة تحقيق تقدم في ظل سيطرة اصحاب العوامل المذكورة و"روزنامتهم" المثقلة بالاهداف ولانه اقتنع بان المواجهة غير المباشرة لم تعد مجدية. وبدأ يتجه نحو المعارضة التي كانت بدأت تأخذ وللمرة الاولى في تاريخ لبنان المعاصر طابعا وطنيا وليس طابعا طائفيا او مذهبيا على جاري العادة. وبدأ وحلفاؤه والملتقون معه الاعداد للانتخابات النيابية مستفيدين من جو شعبي عارم ومن جو دولي ملتفت الى لبنان بعناية بعد غياب طويل عنه فرضته مصالح وصفقات متنوعة ومن جو اقليمي رافض عودة لبنان الى مستنقع الحروب او بقاءه سائرا على طريق التبعية وتاليا الذوبان. في هذه اللحظة قتل رفيق الحريري.

نصل الآن الى المرحلة الثالثة التي تعد مرحلة لبنان بعد الحريري وهي عنوان مشاركتي في المناسبة الحزينة أي ذكرى مرور سنة على اغتيال الزعيم ورجل الدولة والحرية والاستقلال ورجل البناء والانماء والأخ والصديق رفيق الحريري، والسؤال الذي يلح على الجميع في هذه المرحلة هو ماذا بعد الحريري؟ ولبنان الى اين بعد الحريري، وبصراحة دعوني اقول لكم ان الجواب عن هذين السؤالين من الصعوبة بمكان. فمن الناحية المبدئية استعاد لبنان استقلاله وسيادته بخروج الجيش السوري منه الذي سمح وجوده على اراضيه لدمشق ولحلفائها في لبنان بحكمه طيلة مرحلة ما بعد الحرب كلها التي استمرت نحو 15 عاما. ومن الناحية المبدئية ايضا استعاد لبنان ديموقراطيته باجراء انتخابات سياسية حرة ونزيهة الى حد كبير مطلع الصيف الماضي رغم عدم عدالة القانون الذي جرت في ظله. واستعادها ايضا بقيام غالبية نيابية متنوعة الانتماء الطائفي والمذهبي للمرة الاولى منذ نحو ثلاثة عقود وبانبثاق حكومة منها. ومن الناحية المبدئية تابع المجتمع الدولي اهتمامه بلبنان وسعيه الى حماية الانجازات التي حقق وساعده ولا يزال لمواجهة كل العقبات التي تعترض طريقه في سابقة نادرة. ومن الناحية المبدئية رابعا عاد العرب القادرون والفاعلون الى الاهتمام بلبنان بعد طول غياب عنه فرضته عليهم التطورات والظروف والحوادث والعوامل الدولية - الاقليمية المعروفة.

ومن الناحية المبدئية خامسا اثبتت جماعة الغالبية النيابية والحكومية والشعبية تماسكها في وجه كل اصناف التحديات ومحاولات الشرذمة واثبتت جماعة المعارضة من داخل الحكومة حكمة في الحرص على عدم زعزعة الاستقرار الداخلي رغم خلافها الواسع مع الغالبية، واثبتت جماعة المعارضة من خارج على عفويتها وطموحات اركانها الطاغية على سياساتهم قدرة على التخلي عن مواقف اساسية ومبدئية لها وشعارات.

لكن ذلك كله لا يكفي، فالانجازات المبدئية المذكورة يفترض ان تصبح نهائية وان مع مرور الوقت لان التضحيات التي قدمها اللبنانيون من اجلها كبيرة جدا ولان الثمن الذي دفعوه كان باهظا جدا. ولا شيء يؤكد اليوم انها ستصبح كذلك. او بالاحرى وكي لا اوصف بالسوداوية والتشاؤم فان العوامل التي قد تتسبب بالقضاء عليها لا تزال موجودة وفاعلة، بعضها اقليمي منها اسرائيل العدو التاريخي للعرب وللبنان خصوصا وعدم وجود أي مصلحة لها في عودة الحياة الى النموذج اللبناني التعايشي بين اتباع الديانات المختلفة، اي نموذج لبنان الرسالة.

ومنها سوريا الشقيقة التي جعلها تطور الحوادث في لبنان وغموض اهدافها فيه وتغليب مصالحها على مصالحه وممارسات بعض مسؤوليها في لبنان وممارسات حلفائها اللبنانيين خصوصا لجهة اقامة نظام اطاح حرية لبنان واستقلاله وديموقراطيته وعرض استقلاله وسيادته للخطر، جعلتها في مواجهة غالبية لبنانية، وغالبية عربية ودولية، وطبيعي ان توظف كل ما تستطيع داخل لبنان وخارجه للنجاح في هذه المواجهة. وطبيعي ايضا ان يفعل اللبنانيون او غالبيتهم شيئا مماثلاً. لكن الطبيعي اكثر هو ان تعرف سوريا رغبة اللبنانيين في اقامة علاقة سليمة معها وفي عدم ايذائها شعبا ووطنا ونظاما ورغبتهم هذه صادقة، وان تعرف ايضا انهم لم يخرجوا على الصف العربي ولن يخرجوا عليه. والطبيعي اكثر ايضا هو ان يمارس اللبنانيون مواطنيتهم بصدق وامانة وان ينصرفوا الى تحصين بلادهم وبنائها.

في اختصار وبصراحة كلية ان لبنان بعد الحريري يقف الآن على مفترق طريقين لا ثالثة لهما. اولاهما، طريق بناء الدولة وبناء المواطن والمحافظة على الحريات والاستقلال والسيادة وطريق استعادة ثقتهم بسوريا وثقة سوريا بهم. وهي طريق طويلة محفوفة بصعوبات هائلة. وثانيتهما، طريق الانتحار التي لا بد ان تدفعهم الى سلوكها خلافاتهم الطائفية والمذهبية ومصالح سياسييهم واستغلال الخارج لها شقيقا كان او صديقا او عدوا وانتحارهم هذه المرة قد يكون نهائيا.

انطلاقا من ذلك، ومن دون اغفال كل المؤثرات الخارجية المعروفة اقول وبكل ثقة ان اسباب عدم الاستقرار المزمن في لبنان كانت دائما لبنانية ولا تزال كذلك. منها دخل الخارج لبنان على تنوعه وصال وجال فيه على حساب مصالحه الوطنية ومصالح شعبه. لذلك فان الحل لا يمكن ان يكون الا لبنانيا او بالاحرى لا يمكن ان يبدأ الا من لبنان. واذا تم ذلك تسد الثغر امام دخول الخارج او تدخلاته ويصبح في امكان اللبنانيين الانصراف الى بناء وطنهم.

هل يفعلون ذلك؟ آمل ذلك رغم شكوكي الكثيرة والمبرر معظمها.

ختاما اشكر دعوتكم لي للاحتفال بذكرى مرور سنة على استشهاد زعيم ورجل دولة بل باني دولة واخ وصديق هو الرئيس رفيق الحريري والفت الى ان الوفاء له واجب على كل اللبنانيين الى أي فريق طائفي او مذهبي او سياسي انتموا. فدمه فتح طريق الاستقلال وقيام الدولة ودماء اللبنانيين التي قد تهرق في نزاعات عبثية داخلية او خارجية لا بد ان تعيد اقفال هذه الطريق.