نبيل شبيب

أمور عديدة تستدعي عدم القبول بالتعاون مع عبد الحليم خدام بالذات، دون إغلاق الأبواب أمام التعاون مع من قد ينفصل بنفسه عن النظام الحاكم، أو يعلن من داخله العزم على العمل من أجل تغيير جذري في الأوضاع القائمة، دستوريا وقانونيا وتطبيقيا.

فعبد الحليم خدام لم يكن بيدقا من البيادق في النظام، ولا مجرّد طرف بمسؤولية جانبية يتلقّى التعليمات فينفذها، بل كان منذ أكثر من أربعين عاما ركنا من أركان النظام، وأحد المسؤولين الأوائل عمّا وقع في عهده.

وعبد الحليم خدام كان في السنوات الخمس الماضية أيضا أحد أركان ما سمّي الحرس القديم، الذي استمسك بما ساد قبل وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد، أكثر من سواه، وبقي حتى اللحظة الأخيرة من العقبات الرئيسية في وجه إحداث تغيير، ولو جزئي ضعيف، ولا ينفي ذلك مسؤولية سواه عن عدم حدوث تغيير كبير. وكان من أواخر مواقفه المعلنة عبر مجلة "أبيض وأسود" قبل شهور معدودة من "انشقاقه" أنّه يستحيل القبول بتغيير المادة الدستورية المتعلقة بانفراد الحزب الحاكم في السيطرة على البلاد، وأنّ من يدعو إلى ذلك إنّما ينفّذ الرغبات الصهيونية والأمريكية، معترضا على تصريحات مسؤولين من الدرجة الثانية بصدد قابلية الحوار مع "الإخوان المسلمين" على وجه التخصيص، وهو ما يعني اتهام سائر أطراف المعارضة وأطيافها بالخيانة، فجميعهم يطالب بإلغاء هذه المادة بالذات، المقحمة على الدستور دون وجه من وجوه المشروعية الدستورية.

وعبد الحليم خدام لم يخرج من السلطة طواعية، ولم ينشقّ على النظام مختارا، بل كان إخراجه منها في فترة انعقاد المؤتمر العاشر لحزب البعث السوري، نتيجة صراعات بين مراكز القوى، فلا يمكن اعتبار موقفه من النظام "توبة" عمّا سبق، ورغبة في تغيير نتائجه، إنّما هو موقف انتقامي، لا يبالي بوضع نفسه من خلاله أداة تستغلّها القوى الخارجية التي تستهدف سورية بلدا وشعبا أكثر مما تستهدفه نظاما وسلطة.

وعبد الحليم خدّام فيما أدلى من تصريحات واتخذ من مواقف بعد خروجه من السلطة، لم يتعرّض لِما شارك هو فيه على امتداد 35 سنة، فضلا عن السنوات الخمس الأخيرة، بل حاول تصوير نفسه وكأنّه غير مسؤول عن شيء من ذلك، بل لم يعلن أيّ موقف يؤخذ منه استعداده -إذا ما تبدّل الوضع- للكشف عمّا سبق، إنّما أبدى كامل الاستعداد للمشاركة في الإدلاء بشهادات من شأنها إعطاء مزيد من الذرائع لحصار سورية بحجّة حصار النظام فيها، وتحرّك فعلا في هذا الاتجاه.

إنّ الدعوة الموجّهة من جانب المعارضة للعاملين في النظام الحاكم في سورية للانضمام إلى ركب الدعوة إلى الإصلاح والتغيير لا ينبغي أن تكون دعوة إلى تناسي ما مضى، بل إلى إصلاح ما نجم عنه، ولا أن تكون مفتوحة أمام من "يخرجهم" النظام من صفوفه مكرهين، بل هي موجّهة إلى من يخرجوا بأنفسهم طائعين راغبين في التغيير، ولا ينبغي أن تكون تحت عنوان عدم الاستقواء بالخارج ثم لا تتوقف عند حدود من يساهمون في تقديم الخدمات إلى القوى المعادية لتستخدمها في محاولة السير بركب التغيير إلى وضع قد يكون أسوأ ممّا ساد في سورية حتى الآن.

وعندما يرفض بعض أقطاب إعلان دمشق الالتقاء مع خدّام، ويلتقي به آخرون، فلا ينبغي إغفال أنّ مثل هذا اللقاء لا يحقّق الهدف المعلن له ما لم تتوافر له شروط واضحة لم تتوافر بعد، من شأنها أن توظّف اللقاء نفسه ونتائجه توظيفا قويما، وأقلّ هذه الشروط:
- الإعلان دون تحفظ من جانب خدّام، عن مسؤوليته المباشرة عمّا ارتكب النظام من قبل، والرغبة في فتح صفحة جديدة.
- الإعلان عن استعداده للقبول بحكم الشعب على هذه المسؤولية، عندما تتحقّق أهداف التغيير في إيجاد دولة يسود فيها استقلال القضاء ونزاهته وسيادة القانون وسلامته وسلطة منتخبة نظيفة من ألوان الفساد والانحراف.
- الإعلان عن الاستعداد لتوظيف ما لديه من معلومات وربّما بقايا قوّة داخلية في خدمة عملية التغيير الجذري القائم على الطاقات الذاتية دون ارتباط بالقوى الخارجية أو فتح باب استغلالها لعملية التغيير نفسها.

وآخر ما كان يُنتظر هو أن يتمّ اللقاء بين مسؤول عن الإخوان المسلمين، التنظيم الأبرز للعيان في تمثيل التيار الإسلامي في سورية، علما بأنّ عملية الاستقطاب الجارية منذ عقود، جعلت كلّ من ينتمي إلى هذا التيار يُلحَق بالإخوان المسلمين، سواء صحّ ذلك أم لم يصحّ، فبات مثل هذا اللقاء وسواه من الخطوات والتصريحات والمواقف، لا يُحسب على التنظيم وحده، وإنّما يُحسب على التيار الإسلامي إجمالا.

ولا نغفل عن أنّ في الإسلام ما يستدعي التسامح والأخذ بقاعدة عفا الله عما سلف، والاستعداد للتعاون بعد العداء، أكثر ممّا قد يتوافر في سواه، ولكنّ لتطبيق ذلك شروطا وقواعد، تسري في الإسلام وسواه، في مقدّمتها أنّ صاحب الحقّ في ممارسة التسامح وما يتبع له، هو من أصابه الضرر ولحق به الظلم، وهذا ما لا يقتصر قطعا على تنظيم من التنظيمات، ولا يستطيع في الوقت الحاضر أحد من المعارضة أن يتكلّم متسامحا باسم الشعب بسائر تياراته وطوائفه، ولا حتى باسم اتجاه فيه كالتيار الإسلامي بسائر أطيافه المغيّبة إكراها لا الغائبة طواعية عن الساحة.

إنّ ما ارتُكب من مظالم في عهد عبد الحليم خدام ومن كان فوقه في حمل المسؤولية وتحته ممّن يأتمر بأمره، أصاب قطاعات كبيرة من الشعب، على اختلاف انتماءاتهم وتوجّهاتهم، وأصاب الإسلاميين على وجه التخصيص، ولم يكن ذلك من نصيب الإخوان المسلمين فقط، وإن أصبح من الممارسات التي اعتاد عليها هذا النظام توجيه تهمة الانتماء إليهم، لكلّ صاحب توجّه إسلامي، بل لكثير ممّن كانوا يمارسون الإسلام عبادة وأخلاقا ومعاملة فحسب دون انتماء أو نشاط سياسي، وأصاب فيمن أصاب كثيرا ممّن ابتعدوا حتى عن تطبيق القليل من أحكام الإسلام.. وهؤلاء جميعا وسواهم من فئات الشعب، هم الذين يملكون حقّ التسامح، تجاه أبرز رموز النظام من أمثال عبد الحليم خدام.

والجدير بالتنويه في الختام ثلاثة أمور:
- لا ينفي ما سبق الدعوة الملحّة إلى تعزيز مبدأ التسامح، وتأكيده، والتشجيع على ممارسته، دون انتزاعه حقّا ثابتا للضحايا الذين لا يوجد في الوقت الحاضر أيّ تنظيم يمكن أن يتحدّث باسمهم جميعا في وقت واحد.
- إنّ تأكيد رفض تقديم الخدمات لقوى معادية تستهدف سورية بلدا وشعبا، لا ينفي التأكيد في الوقت نفسه لضرورة العمل على أن تكون سورية المستقبل دولة منفتحة على التعاون إقليميا ودوليا على أساس المصالح المشروعة وما يحقّق الخير لسورية وشعبها وعلى مستوى الأسرة البشرية.
- إنّ التنويه بموقف مرفوض من جانب تنظيم من تنظيمات المعارضة كالإخوان المسلمين لا يعني بحال من الأحوال رفض سائر ما يتخذه من مواقف، ويبذله من جهود، فلا يخفى أنّه في المقدّمة من حيث التحرّك في اتجاه التغيير القويم، وأنّه قدّم الكثير لإيجاد أرضية مشتركة مقبولة مع القوى والتيارات والانتماءات الأخرى، من أبرز عناوينها في الآونة الأخيرة ما عُرف بإعلان دمشق، وقد يكون اللقاء مع خدّام أقرب إلى حرق أوراقه شعبيا من أيّ شيء آخر.